خرج من بيته ولم يعد إليه؛ فلقد كانت رحلته الأخيرة، كان اختبارًا صعبًا وقاسيًا، القرار فيه لا يحتمل التأخير، وجاء هذا القرار سريعًا، وتجرد فيه من حب الدنيا؛ ليلبس ثوب الملائكة، ويسير بسيارة الوقود المحترقة، منقذًا مدينة بأكملها من دمار قريب.
هو شهيد الشجاعة والشهامة، خالد عبدالعال.
ماذا بينك وبين ربك، ليرزقك هكذا حسن الخاتمة؟ لقد أحرقت النار جسدك الطاهر، وأخرجتك من دنيا الأحياء، لكنها دفعتك دفعًا نحو جنة عرضها السماوات والأرض، أعدت للمتقين.
في تقييمات الآخرة، الحسابات تختلف، والأمور تتبدل، والحجب تتكشف، ويعلم كل إنسان حجمه الحقيقي ومكانته الطبيعية بين الخلائق جميعًا؛ فكثيرًا ما كانت الدنيا خداعة، وتقديراتها زائفة، وعظماؤها أكاذيب، وما هكذا تكون الآخرة.
تقييمات الدنيا قد تنصف المخادعين، وترفع الأفاقين، وينجح فيها اللاعبون بالبيضة والحجر، والراقصون على جميع الموائد. أما الآخرة، فهي لمن صدق وصبر وأخلص واحتسب. ولذلك ليس عجيبًا أن تكون الآخرة: {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ}.
المنطقي في لغة البشر أن يكون الرفع قبل الخفض، لا العكس. أما {خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ} فلربما أراد الله بها أن يشفي صدور قوم مؤمنين أولًا، بأن يروا بأعينهم ظالميهم في أسفل سافلين، قبل أن يروا ثواب صبرهم العظيم، ورفعة شأنهم ومكانتهم. ولذلك قد يختلف كثيرًا، بل كثيرًا جدًا، عظماء الدنيا عن عظماء الآخرة.
في الدنيا أناس إن حضروا لا يلتفت إليهم، وإن غابوا لا يفتقدوا، لا يلقي القوم إليهم بالًا، ولا يعيرونهم اهتمامًا، دومًا هم خارج الحسابات، وكأنهم سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماءً! وهؤلاء قد يكونون أهل الود والصفوة عند الله تعالى، لو أقسم أحدهم على الله لأبره.
ماتت عجوز على عهد رسول الله (صلى الله عليه وسلم) كانت تَقُمُّ المسجد، أي تنظفه وتطيبه، ما كان أكثر الناس يعرفونها، ماتت فصلى عليها الناس ودفنوها، ولم يخبروا بها النبي (صلى الله عليه وسلم). فلما علم بوفاتها بعد أيام، غضب لذلك غضبًا عظيمًا، وعاتبهم عتابًا شديدًا، ثم ذهب إلى حيث دفنت، فدعا لها، وصلى عليها الجنازة وهي في قبرها!
هذه المرأة الصالحة تهللت السماء لقدومها، وما ضرها قط جهل الناس بها، وأن أصحاب السير اختلفوا في اسمها.
وفي المقابل: {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}.
يوم القيامة ينصب الميزان، وينشر الديوان، وتلتف الساق بالساق؛ خوفًا وفزعًا. تشخص الأبصار، وترتجف القلوب، وتنقطع الأنفاس، ولا تسمع إلا همسًا: {وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا}.
للرحمن، وليس للجبار، أو القهار!
ميزان ربي ميزان فضل، ميزان لا ينسى ولا يضيع: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ}.
لماذا ضرب الخردل مثلًا؟ تأكيدًا على الدقة المتناهية، فقد نقل إلينا أهل العلم أن كيلوجرامًا واحدًا من حبوب نبات الخردل يحتوي على قرابة 913 ألف حبة! وبذلك فهو أصغر وزن لحبة نبات عرفت حتى الآن!
أويس القرني من التابعين الزاهدين، الأعلام الأخيار، منعه بره بأمه ورعايته لها أن يذهب للقاء رسول الله (صلى الله عليه وسلم) ويكون بذلك صحابيًا، ورغم ذلك أمر رسول الله (صلى الله عليه وسلم) عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب رضي الله عنهما أن يبحثا عنه ويجعلاه يدعو الله لهما!! وهما من هما في التقوى والورع والإيمان والزهد والعلم.
يحج أمير المؤمنين عمر بن الخطاب عشر سنوات متتالية هي مدة خلافته، وفي كل مرة ينادي بأعلى صوته: يا معشر الحجيج، من أهل اليمن، أفيكم أويس القرني؟!
لا يجد إجابة على الإطلاق، إلا في السنة الأخيرة والحجة الأخيرة، وقبل استشهاده بأيام، إذ يأتي الجواب على خجل من رئيس وفد اليمن: أتراه أويس راعي الغنم؟! إنه في عرفة.
يجري عمر وعلي بحثًا عنه، حتى كان اللقاء المنتظر، يسأل عمر: من الرجل؟ فيجيب: راعي غنم، أجير قومه، فيقول عمر: ما عن هذا سألناك. فيسأل علي: ما اسمك؟ فيجيب: عبد الله، فيقول علي: قد علمنا أن كل من في السماوات والأرض عبيد لله، ما اسمك الذي سمتك به أمك؟ فأخبرهما أنه أويس، وتأكدا من علامة في كتفه أخبرهما بها رسول الله (صلى الله عليه وسلم). يتهلل عمر ويقول: الله أكبر، يسأله أويس: من أنتما؟ فيجيب عمر: أنا عمر بن الخطاب، وهذا علي بن أبي طالب، فينتفض أويس ويقول: مرحبًا بأمير المؤمنين وصهر رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، جزاكما الله خيرًا عن الإسلام.
يسأله عمر: كيف ترى رسول الله يا أويس؟ فيجيب: أراه نورًا يملأ السماوات والأرض، فيبكي عمر شوقًا لرسول الله (صلى الله عليه وسلم).
ثم يسألانه الدعاء لهما، كما أمرهما بذلك رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فيفعل الرجل، ثم يقول عمر: انتظر قليلًا، سأعود إلى مكة، وآتيك سريعًا بالنفقة والثياب، فقد كان الرجل معدمًا فقيرًا، عليه ثوب بالٍ من الصوف، لكن أويس بادره: يا أمير المؤمنين، لا موعد آخر بينك وبيني، ولا أراك ولا تراني بعد يومنا هذا! ولا حاجة لي بنفقة أو ثياب!
كأني أكلت! ليس وصفًا لحال، بل اسم لمسجد!
تبدأ قصة هذا المسجد العريق، الذي بني منذ نحو أربعمائة عام، في العهد العثماني، بأحد ضواحي إسطنبول، على يد رجل يدعى خير الدين كججي أفندي، وكان الرجل حقًا وصدقًا خيرًا للدين.
يحكى أن هذا الأخير كان يمشي بالأسواق، ويرى الأطايب من الطعام والشراب أمامه، مستشعرًا الرغبة فيها، والضعف أمامها، شأنه شأن الناس جميعًا، لكن خير الدين كان له رأي آخر! فلم يسع لإرضاء شهوات نفسه، بل كان يضع ثمن ما اشتهاه في صندوق يحتفظ به في بيته، مواسيًا نفسه، ومحاولًا إقناعها بأنه نال ما اشتهي، مرددًا: كأني أكلت!
تمر الأيام، وتتوالى السنون، ويصبح الصندوق قادرًا على بناء مسجد متواضع؛ لتتحقق بذلك الأمنية التي طال انتظارها، وجمع كل هذا المال لأجلها، ومن أجلها أيضًا كان حرمانه!
المسجد شديد البساطة، مساحته تزيد قليلًا على مائة متر مربع، لا يتسع إلا لمائتي مصلٍ بالكاد، وصمم في بدايته بدون أسقف! وبأسوار منخفضة!
لم يكن خير الدين صحابيًا ولا تابعيًا، كان فقيرًا تقيًا نقيًا زاهدًا ورعًا، آثر الآخرة على الدنيا.
قال المعلم الأول (صلى الله عليه وسلم): "ليؤتين يوم القيامة بالعظيم الطويل الأكول الشروب، فلا يزن عند الله جناح بعوضة، واقرؤوا إن شئتم: {فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}".
وقال (صلى الله عليه وسلم): "إن الله لا ينظر إلى أجسامكم، ولا إلى صوركم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
انكشفت ساق عبدالله بن مسعود، وكانت دقيقة هزيلة، فضحك منها بعض الحاضرين. فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): "أتضحكون من دقة ساقيه! والذي نفسي بيده لهما أثقل في الميزان من جبل أحد".
هي الدنيا، وهي الآخرة، فاختر بينهما، أو اجمع بينهما، وفي كل عمل من أعمالهما استحضر أمرين مهمين: النية الصادقة، والإخلاص الكامل، لعلك تفوز بالفلاح والنجاح في الدنيا وفي الآخرة.