فَرَضَت ثقافة "الكومباوند" نفسها على الخريطة العمرانية والاجتماعية في مصر في السنوات الأخيرة، حتى باتت أشبه بعالم موازٍ داخل المدن، بل أحيانًا خارجها. وهي ظاهرة تبدو للوهلة الأولى انعكاسًا طبيعيًا لمتطلبات الأمان والخصوصية والتنظيم.
لكن ما تكشفه التجربة اليومية، وما تشير إليه بعض الدراسات الاجتماعية، هو أن لهذه الثقافة ثمنًا اجتماعيًا ونفسيًا قد يتجاوز بكثير مكاسب الراحة والهدوء.
تاريخيًا، لم تعرف مصر تلك "القطيعة المكانية" بين أبنائها. فالمدينة المصرية كانت دائمًا حاضنة للاختلاف، ساحة مفتوحة للتنوع والتفاعل. من الحواري الشعبية إلى الأحياء الراقية، ظل الخيط الإنساني موصولًا بين الجميع على اختلاف طبقاتهم. أما اليوم، فقد أصبحت الأسوار العالية رمزًا لا للفصل المكاني فقط، بل للانفصال النفسي والطبقي. وهنا يكمن الخطر.
إن الكومباوند لا يغلق بابه فقط على من هم خارجه، بل يُغلق الداخلين فيه عن مجتمعهم الأكبر. الحياة داخل هذه الجزر العمرانية تبدو مُصمَّمة لتلبية احتياجات محددة، في مناخ شبه مُعقَّم اجتماعيًا، تختفي فيه ملامح مصر اليومية من صوت الباعة، إلى صخب الحارة، ودفء العلاقات بين الجيران.
ربما لا يشعر الجيل الجديد الذي نشأ داخل هذه الجدران بما ضاع، لكنه مُعرَّض لأن يفقد تدريجيًا أهم عناصر التكوين النفسي والمجتمعي: التفاعل مع الآخر، والتسامح، والانتماء إلى نسيج أوسع من محيطه المغلق.
ومع الانتشار الواسع لهذه المجتمعات السكنية المغلقة، والتي صارت مطلبًا وهدفًا لدى الكثيرين، إما طلبًا لأمن أو الهدوء أو حتى من باب الوجاهة، بدأت الأصوات الأكاديمية والاجتماعية تُحذِّر من التداعيات بعيدة المدى لهذا النمط من العيش، لا سيما في مجتمع لطالما تميز بثرائه الاجتماعي وتاريخه الطويل في الحياة المشتركة.
فما الذي تغير؟ وماذا تقول الدراسات العلمية؟
تقرير للمركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية عام 2020 بعنوان "التحولات العمرانية وأثرها على البنية المجتمعية في مصر"، قال إن الامتداد العمراني المغلق "الكومباوند"، يؤدي إلى انحسار العلاقات الاجتماعية خارج هذه الكيانات.
وفي دراسة أخرى صادرة عن المركز عام 2022 بعنوان "تحولات الطبقة الوسطى وأنماط السكن في مصر الحضرية"، تبيَّن أن سكان الكومباوندات، رغم شعورهم بالأمان، يختبرون درجات من "الانفصال الطبقي النفسي"، وهو ما عبَّر عنه باحثو المركز بأنه "شعور بالاغتراب داخل الوطن، ناتج عن الفصل الاجتماعي لا الجغرافي فقط".
ودراسة أخرى للمركز، أكدت أن الشعور بالأمان داخل هذه المجتمعات "المغلقة" يقابله شعور ضمني بالتهديد من "الخارج"، ما يعزز بناء "نحن" مقابل "هم"، ويؤثر على الثقة المجتمعية العامة.
هل قد يؤدي ذلك إلى شرخ نفسي مجتمعي في المستقبل؟ نعم، تشير التحليلات المستقبلية إلى أن استمرار هذا النمط السكني دون سياسات دمج اجتماعي سينتج "انقسامًا نفسيًا" داخل المجتمع، حيث يشعر الأفراد بأنهم ينتمون لدوائر منفصلة، لا تربطها سوى دولة رسمية، لا مجتمع مشترك.
في الحالة المصرية، هذا يعني خطر فقدان "روح العيش المشترك" التي كانت سمة المدن المصرية على مدى التاريخ، من الحارة إلى الأحياء المختلطة، وهو شرخ نفسي لا يعبر فقط عن تباعد طبقي، بل ربما تكون عاقبته ضعفًا في الإحساس بالوحدة الوطنية.
إزاء هذه المؤشرات، ينبغي إعادة النظر في فلسفة التوسع العمراني في مصر. فهل نريد مدنًا "مُرتبة ومُنفصلة"، أم مدنًا "حية ومُتفاعلة"؟ هل نقيس جودة الحياة فقط بالخدمات والمرافق، أم أيضًا بمدى انخراط الإنسان في شبكة علاقات إنسانية واجتماعية حقيقية لطالما تفرد بها المجتمع المصري؟
ليس المقصود هنا الهجوم على الكومباوندات، بقدر ما هو دعوة لإعادة النظر في فلسفة العمران، وألا يقتصر أمر تمددها على الجوانب الهندسية فقط، بل ينبغي مراعاة الأبعاد المجتمعية. فما نحتاجه ليس فقط وحدات سكنية مُنظمة، بل مجتمعًا حيًا، يتنفس ويختلط ويتفاعل. لا تقاس جودة الحياة فقط بمدى نظافة الشوارع أو توافر الأمن، بل بمدى احتفاظ الإنسان بصلته بإنسانيته، بالآخرين، بتاريخ المكان.
ففي النهاية، مصر ليست مجرد أرض وسكن، بل روح مجتمعية، لا يجوز أن تُختزل داخل الأسوار أو الجدران العازلة، وحينها لن يفيد البكاء على مجتمع قد فات.