15-6-2025 | 13:48

إلى حين انقشاع الغُمة، واتضاح الخيط الأبيض من الأسود في المعركة الطاحنة الدائرة حاليًا بين إيران وإسرائيل، سنضطر مُجبرين، وسط ضباب المشهد الكثيف، إلى مطاردة تساؤلات الساعات الحرجة، التي سيتوقف عليها شكل خريطة الشرق الأوسط وموازين القوى فيها خلال السنوات المقبلة، وكيف ستستعد لها دول المنطقة، وفقًا لمنظورها وأولويات أمنها القومي.

التساؤل الأول:

قد يبدو هذا التساؤل في نظر بعضنا مكررًا من كثرة ترديده سابقًا في مناسبات وأزمات مشابهة، ويتعلق بتحديد ما إذا كنا إزاء مشروع توسعي لإسرائيل، المنتشية بغطرسة القوة، والمعتقدة أنها فوق القوانين والمواثيق الدولية، أم أمام مشروع أمريكي يوظف إسرائيل كأداة لتنفيذه وتثبيت أركانه من أجل جني الفوائد والمنافع التالية لإتمامه؟

الواقعية والشواهد السياسية والإستراتيجية تؤكد، بما لا يدع مجالًا لذرة شك، أننا نواجه مشروعًا أمريكيًا قلبًا وقالبًا. فعندما نرجع قليلًا إلى الوراء، إلى التمهيد السابق على بدء الهجمات الإسرائيلية على العمق الإيراني، نكتشف أن الولايات المتحدة، بقيادة دونالد ترامب، لعبت الدور الأبرز في عملية الخداع الإستراتيجي، من خلال تسريب إدارته معلومات خاطئة ومضللة للصحافة الأمريكية والعالمية، تفيد بأن الرئيس الأمريكي يعارض شنّ تل أبيب هجومًا على الأراضي والمنشآت النووية الإيرانية، وأنه حثّ رئيس الوزراء الإسرائيلي المتطرف، بنيامين نتنياهو، على تجنب الإقدام على هذه الخطوة، بينما الحقيقة أن مكالمتهما الهاتفية الأخيرة كانت للترتيب للهجمات.

لم تكتفِ واشنطن بهذا القدر من الخداع، بل روّجت لإحراز تقدم في المحادثات النووية الجارية بين واشنطن وطهران منذ عدة أشهر، بهدف إيجاد مخرج من أزمة البرنامج النووي الإيراني، الذي تزعم إسرائيل أنه يشكل تهديدًا لوجودها، وأن الطرفين يوشكان على إبرام اتفاق بهذا الخصوص يجنب الجميع والمنطقة حربًا ضروسًا لا طائل منها ولا فائز فيها. وما إن بدأت السلطات الإيرانية في الرد على الهجوم الإسرائيلي بقصف تل أبيب بالصواريخ، حتى كانت القوات الأمريكية يدًا بيد مع عناصر الجيش الإسرائيلي في التصدي لها، وأعلنت صراحة أنها لن تسمح بالمساس بأمن الدولة العبرية، مما يعني أنها أصبحت جزءًا أساسيًا من المعركة ضد إيران، التي يراها المسؤولون الأمريكيون عقبة كؤودًا تضر بنفوذهم وسيطرتهم على الشرق الأوسط وثرواته الطبيعية، ويلزم إزاحتها من الطريق للاستحواذ عليها دون إزعاج.

التساؤل الثاني:

هل حقًا إيران نمر من ورق، بعدما تمت مباغتتها بهذه الصورة، دون صد ولا رد من جهتها؟ فقد هُوجِمت مبانٍ داخل مناطق يسيطر عليها الحرس الثوري سيطرةً تامة، وكذلك منشآتها النووية، والأفظع من ذلك انكشافها المخابراتي، إذ أن 60 عميلًا تابعًا للموساد الإسرائيلي كانوا يعملون على الأرض من داخل إيران، وشلوا أنظمتها الدفاعية، وقتلوا عددًا من كبار قادة الجيش والعلماء النوويين.

فهل ستنزوِي إيران لحين لملمة أشلائها المبعثرة هنا وهناك، واستعادة قوّتها الغائبة؟ وهل سيقبل المواطن الإيراني بأقل من رد الصاع صاعين، بعد أن انتُهكت سيادة أراضيه بهذه الصورة الجارحة والمهينة؟ وبالتبعية، هل ستفقد إيران، ولو إلى حين، موقعها كقوة إقليمية مؤثرة، قادرة على إحداث التوازن المنشود في المعادلة المختلة بمواجهة أمريكا وإسرائيل، وهل سيكون ذلك في مصلحة المنطقة أم ضدها؟

المؤسف أن طهران لم تنكشف عسكريًا ومخابراتيًا فحسب، بل فقدت تقريبًا كل أوراق وكروت الضغط التي كانت تلجأ إليها كلما ضاقت من حولها الحلقات والأزمات؛ فحزب الله دخل مرحلة الكمون، ونظام بشار في سوريا سقط، والميليشيات الشيعية العراقية ليست مستعدة لتكبد مزيد من الخسائر البشرية والمادية، ولم يتبقَ لها سوى الحوثيين في اليمن، الذين يكتفون بالمناوشات من مسافات بعيدة، وتعرضوا في الآونة الأخيرة لهجمات أمريكية–إسرائيلية كاسحة، استهدفت البنية التحتية لجماعة الحوثي؛ أي أن إيران تقف على الساحة وحيدة، تدرس ما ستكون عليه حركتها التالية على رقعة شطرنج الشرق الأوسط شديد السخونة.

علاوة على ذلك، فإن قواعد الاشتباك المعهودة بين تل أبيب وطهران تغيّرت تمامًا، وهو ما لم تفطن إليه الحكومة الإيرانية مبكرًا، والتغير بدأ قبل مدة باغتيال عدد من علمائها النوويين بالداخل الإيراني، وإسماعيل هنية، وحسن نصر الله، ومعه ثلة من قيادات الصف الأول، ورغم ذلك لم تعد العدة لحماية نفسها، ولم تواكب ما طرأ من تحولات أفقدتها قوتها ومناعتها العسكرية والسياسية، ووضعتها في موضع الضعيف، ما لم تقدم ما يدحض هذا عمليًا على الأرض في مقتبل الأيام.

التساؤل الثالث الحرج:

إلى متى سيستمر التخاذل والصمت الدولي على العربدة الإسرائيلية، وتهديد تل أبيب المباشر للأمن والسلم العالميين بتصرفاتها الجامحة، وكأنها تحلق في السماء بعيدًا عن مبدأ الحساب والعقاب، غير مكترثة إلا بما تعلنه عن إعادة صياغة الشرق الأوسط تبعًا لما تشتهيه وترضى عنه، بالتنسيق الكامل مع الولايات المتحدة بطبيعة الحال؟

في الأزمة الحالية، شاهدنا كيف أن المؤسسات الدولية لم تقدم أو تؤخر، فهي تلتزم جانب الإعراب عن القلق، والدعوة إلى تهدئة التوتر، وتجنب الانزلاق نحو كارثة نووية قد تحدث في لحظة طائشة من قبل طرفي النزاع. أما القوى العظمى، فقد تعاطت مع الأزمة باعتبارها فرصة إستراتيجية هبطت عليها من السماء في صراعاتها واحتكاكاتها غير المنتهية مع أمريكا، على القضايا الاقتصادية والمالية والسياسية والعسكرية واقتسام أماكن النفوذ وغنائمه، وهي تنتظر نقطة الحسم لترى أين سيكون مكانها وموقفها منها.

ولنا خير مثال في روسيا والصين وغيرهما، فهذه القوى ترى في الشرق الأوسط رمالًا متحركة، من يسير عليها يغرق فيها، وهو ما لا تحبذه، وتفضل الجلوس في مقاعد المشاهدين، واقتناص الفرص الواعدة التي تخدم مصالحها وأهدافها الآنية والمستقبلية.

فالعجز الدولي نابع – في جزء كبير منه – من المؤازرة الأمريكية اللامتناهية لإسرائيل، وحشد كل ما في جعبتها من قدرات سياسية وعسكرية وعلمية لدعمها. وواضح أن العالم لم يعثر بعد على الطريقة التي تمكنه من جعل كفة الميزان عادلة، ويقف على أعتاب أيام حبلى بمفاجآت ربما تكون غير سارة بالمرة.

كلمات البحث