في زقاق ضيقة بمنطقة المعمورة البلد شرق الإسكندرية، يتوقف الزمان عند عتبة محل صغير لا يلفت النظر من الخارج، لكن من الداخل يحمل عبق حِرفة والتراث، وسط أكوام من جريد النخل اليابس، يجلس رجل ستيني على الأرض ببشرة لفحتها الشمس وملامح طبعها الزمن، يعمل بصمت وإتقان، كأنه يحاور الطبيعة بساطور لا يقطع بل يبدع.
موضوعات مقترحة
لا طلاء على الجدران، ولا ديكور يلفت الانتباه، لكن المشهد كله ينطق بحكاية عنوانها الشغف والإبداع، بين يديه وأقدامه، يتحول الجريد إلى قطع فنية دقيقة الصنع، تُروى بالصبر والخبرة، تقطيع، تشذيب، تشبيك.. كل حركة لها إيقاعها الخاص، خشخشة الجريد حين تقليمه هو موسيقى المكان الوحيدة.
.القفّاص الأخير يصنع الفن من أكوام جريد النخل بالإسكندرية
.القفّاص الأخير يصنع الفن من أكوام جريد النخل بالإسكندرية
صناعة الأقفاص بجريد النخل
هو "القفّاص الأخير"، أحد آخر من تبقّوا ممن يتقنون صناعة الأقفاص بجريد النخل، حرفة قاربت على الاندثار في ظل زحف البلاستيك وتغير أنماط الحياة لكنه لا يزال هنا، يمارس ما يحب، ويورث ما يعرف، محافظًا على خيط من هوية مهددة بالغياب.
.القفّاص الأخير يصنع الفن من أكوام جريد النخل بالإسكندرية
تجارة المصنوعات البوصية
يروي قاسم حسن، الرجل الستيني، تفاصيل حكاية بدأت منذ أكثر من خمسة عقود، عندما كان مجرد طفل يرافق والده في تجارة المصنوعات البوصية، ومع مرور الزمن، انتقل من البيع إلى الإبداع، ومن التجارة إلى الصنعة، فغاص في عمق المهنة، ليصبح "القفّاص الأخير" في الإسكندرية، بعد أن عزف عنها الشباب، واندثرت المهنة.
"ورثت المهنة عن والدي وجدي، وبدأت أمارسها بنفسي منذ أكثر من خمسين عامًا"، بهذه الكلمات استهلّ قاسم حديثه، بينما كان يثبّت أحد أعواد الجريد بقدميه، ويمرره بين أصابع يده بحرفية لافتة، مشيرا إلى الماضي حين كانت المهنة في أوج ازدهارها، وكان والده يشتري حمولات الجرارات القادمة من صعيد مصر، لتلبية الطلب الكبير على المنتجات المصنوعة من الجريد، أما اليوم، ومع تراجع حركة البيع وانحسار عدد الزبائن، بات يكتفي بجلب كميات محدودة من الجريد من الأراضي المجاورة، بالكاد تكفي لسد حاجات القلائل الذين ما زالوا يقبلون على هذه الصناعات العتيقة.
.القفّاص الأخير يصنع الفن من أكوام جريد النخل بالإسكندرية
القفّاص يعمل بجميع أطرافه
ويقول حسن ما يميّز مهنة القفّاص، أنها لا تكتفي بأن تشغل اليدين، بل تحتاج للجسد كله "عيني تتابع، ويدي تقطع، وقدمي تثبّت… هي مهنة تسرق منك كل تركيزك"، مشيرا إلى أن يومه يبدأ متى شاءت حالته النفسية بذلك، ويستمر بالعمل حتى ينجز ما طُلب منه، لا ساعة تضبط إيقاع عمله، لافتا إلى أن المهنة ليست مجرد حرفة، بل فن يعتمد على الدقة والإتقان في التعامل مع كل عود من الجريد.
.القفّاص الأخير يصنع الفن من أكوام جريد النخل بالإسكندرية
رحلة الجريد قبل أن يتحوّل إلى تحفة
ويضيف حسن أن كل نوع من الجريد يحمل اسماً ودوراً، فمنه "الحياني"، "زغلول"، "بت عائشة"، "سماني، عرابي، ومشهد، كلها أنواع يتم اختيارها بعناية حسب الاستخدام، فصناعة القفص تمر بعدة مراحل تبدأ بـ "تربيع الجريد" أي إعداد الأعمدة، ثم "التدوير"، ثم "التثقيب" بدقة متناهية وبمسافات متساوية، وأخيراً "التقفيل"، وهو تشبيك الأعواد لتكوين الشكل النهائي، مؤكدا أن حجم القفص والغرض منه يحددان وقت تصنيعه، فهناك ما يُنجز في ساعة، وهناك ما يحتاج إلى يوم أو أكثر، حسب التفاصيل والمقاسات.
.القفّاص الأخير يصنع الفن من أكوام جريد النخل بالإسكندرية
مهنة على حافة النسيان.. والفن الذي يقاوم الاندثار
ويصف حسن المهنة بالفقيرة ومحدودة الدخل نظرا لقلة دخلها، ما أدى إلى عزوف الشباب عن تعلمها، خاصة مع قلة الطلب على المنتجات اليدوية، بعد انتشار استخدام الكرتون والأقفاص البلاستيكية كبدائل لتخزين الفواكه.
وأوضح أن ارتباطه بالمهنة نابع من حبه الشديد لها، رغم ما يعانيه من ضعف العائد المادي، مشيرًا إلى أن صناعة الأقفاص من الجريد تُعد من المهن الشاقة مقارنة ببقية الحرف اليدوية، إلا أنها لم تشهد أي تطور أو تدخل ميكانيكي يمكن أن يحل محل الإنسان.
وأشار إلى أن صعوبة المهنة تكمن في احتياجها لحس فني وملاحظة دقيقة، يصعب على الماكينات توفيرها، حيث إن لكل عود جريد اتجاهًا معينًا – سواء رأسيًا أو أفقيًا – يُحدد بناءً على القص والثقوب، وهي تفاصيل لا يلتقطها سوى الحرفي المتخصص صاحب الخبرة.