خارطة طريق للإصلاح الثقافي في ربوع مصر

11-6-2025 | 11:03

فى اعتقادي أن المثقف الحقيقي الذي يريد الخير لبلده ويريد الخير للثقافة الوطنية أن تنهض من كبوتها التي أصابتها فاقعدتها عن المواكبة والمعاصرة ومسايرة ركب المدنية الحديثة والعالم الحداثي المستنير وما بعد الحداثي أيضًا.

أن يقف موقف الجد، ويحاول جل استطاعته أن ينهض بثقافة بلده عن طريق تلمس مواطن الخلل ومحاولة معالجتها دونما يأس، فليس من المعقول أن بلد عزيز بأهله وبأدبائه وكتابه ومثقفيه ألا يتبوأ المكانة التي تليق به وسط هذا العالم المستنير الذي - ولا أكون مبالغًا إذا قلت استمد نهضته من حضارتنا الشرقية القديمة، وعلى وجه الخصوص الحضارة المصرية القديمة بشهادة المنصفين من بعض المستشرقين، أمثال هنري برستيد صاحب كتاب فجر الضمير.

شهد بذلك بعض فلاسفة اليونان أمثال سقراط وفيثاغورث وأفلاطون أولئك الذين شرفتهم الأقدار وزاروا مصر وتعرفوا على كهنة مصر وكهنوتها، واستلهموا الحكمة من حكمائها.

ومن هذا المنطلق لابد أن نضع أيدينا على مواطن الداء، مواطن الخلل التي أصابت ثقافتنا، ونضغط بقوة عليها حتى نحسن التشخيص من أجل إيجاد علاج ناجع لأزماتنا الثقافية المتعددة والمتكررة.

نبدأ من الهيئة المنوطة بالثقافة، وزارة الثقافة، ننقب عن السوس الذي ينخر في جدرانها، ونقضي عليه تمامًا بمبيد فتاك حتى لا تقوم له قائمة ويحيا من جديد.

لكن كيف يتم ذلك؟!

هذا يحتاج إلى قائد تنفيذي لا يعطي أذنه لأحد، وإنما يتابع عن كثب ويناقش كل صغيرة وكبيرة تخص هذا البيت، فلا ينبغي أن تكون يده مرتعشة، وإنما ينبغي أن تكون قوية فيضرب بها كل من تسول له نفسه تخريب هذا الصرح العملاق الذي مهمته الرئيسة حماية تراث أمة من عبث العابثين المنتفعين، تجار السبوبة، وللأسف السلعة هي المنتوج الثقافي.

نعم يضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه إهدار المال العام، فليس الحل في إغلاق قصور الثقافة، وإنما الحل في إحيائها من مواتها، وهذا ما نقصده بترك المكاتب المغلقة المكيفة، والنزول إلى أرض واقعنا الثقافي.

هذه هي النقطة الأولى والأساسية، نعم الضرب بيد من حديد على كل من تسول له نفسه استخدام نفوذه للتربح عبر قنوات مشبوهة لا هم لها إلا التربح عن طريق الرشاوى والوساطة والمحسوبية.

نعلم جيدًا أن مهمة القائد ليست سهلة، فالذي سيأخذ على عاتقه الدخول إلى عش الدبابير فليعد عدته وليجهز أسلحته، ويستعد في أي وقت لمغادرة مكتبه، وليكن على علم يقيني أن هؤلاء لن يتركوه وشأنه.

أما الأمر الثاني، إذا أردنا حقًا النهوض بثقافتنا المصرية، فينبغي البحث والتنقيب عن المثقفين الحقيقيين لا أنصاف المثقفين، والبحث بجد عن المبدعين، ولنبحث عنهم في كل مكان في أرض الوطن، من شرق البلاد إلى غربها، من جنوبها إلى شمالها، فمصر التي أنجبت عمالقة الفكر والأدب والسياسة، وخبراء الاقتصاد وعلماء الاجتماع، لم ولن تصاب بالعقم أو الفقر الأدبي والثقافي، فكما ولدت نجيب محفوظ وطه حسين والعقاد والسباعي وعائشة عبدالرحمن وأحمد شوقي باشا وحافظ إبراهيم وكوكب الشرق أم كلثوم، أولئك الذين أسسوا مدارس بعينها، ونقلت كافة الفنون والآداب إلى العالم كله، قادرة على أن تنجب آلاف غيرهم، فمصر ولادة ورحمها لا ينضب أبدًا، ولكن المهم نأخذ المبادرة الحقيقية للبحث عن هؤلاء المبدعين.

ورب سائل يطرح سؤالًا عن كيفية الوصول إلى هؤلاء؟!

نقول بالبحث والتنقيب، فقديمًا كان البحث والتنقيب عملًا شاقًا، يحتاج إلى السفر إلى المحافظات والقرى والنجوع والكفور، وكان ذلك مكلفًا ماديًا ومرهقًا بدنيًا.

لكن الآن ونحن في عصر الإنترنت ومواقع التواصل الاجتماعي بكافة وسائلها، أضحت المسألة سهلة فمن الممكن إطلاق منصات ثقافية افتراضية عبر الأثير، يتم من خلالها عقد ندوات ثقافية، في الآداب، والفنون، والشعر والقصة وفن كتابة المقال، والقيام بعمل مناظرات ومساجلات ومبارزات ثقافية كل يدلي بدلوه، ويتم اختيار أفضل الأعمال المقدمة من لجنة محترمة تفحص ما يقدم لها من إنتاج بمنتهى الموضوعية.

ثم بعد ذلك يقام احتفال عام يحضره قيادات الدولة، ويتم فيه تكريم الفائزين - كلامي واضح ومحدد، أنا لا أقصد جوائز الدولة التي تقدم كل عام، وإنما مقصدي اكتشاف مبدعين جدد، أصحاب فكر ورؤى جديدة، أصحاب تفكير خارج الصندوق، فهؤلاء سيكون عليهم معول رئيس يحمل بعدين أساسيين.

أولهما، المحافظة على هويتنا الثقافية المصرية من خلال ما سيتم اكتشافه من إبداعاتهم، وثانيهما، الانطلاق إلى الأمام، إلى المواكبة والمعاصرة إذا ما وجدوا من يأخذ بأيديهم، ويخرج إبداعاتهم من حيز الوجود بالقوة إلى حيز الوجود بالفعل، وهذا يعد في حد ذاته عملًا جليلًا.

 أما الأمر الثالث، فهو تفعيل دور الثقافة الجماهيرية، وإحياء دور المكتبات العامة، فلا ينبغي تسليط الضوء الإعلامي على مكتبات العاصمة ومكتبة الإسكندرية فقط، التي لها دور مهم وفاعل برز الآن وبدأنا نجني ثماره، وإن كان هناك بعض الهنات لابد من لفت النظر إليها.

فمعظم ندواتها لا يتم الإعلان عنها بصفة دورية ودائمة، ففي الماضي القريب كانت تتم مراسلات بين هذه المكتبة والجامعات، أما الآن فلا نعلم شيئًا عن ندواتها إلا من خلال صفحات بعض الزملاء الذين وجهت لهم الدعوة بالحضور.

وهذه سقطة قد تضرب الثقافة في مقتل، فلا يمكن احتكار النشاط الثقافي وقصره على مجموعة بعينها، وهذه المجموعة تختار ذوي الحظوة من الأصدقاء، وهذا ما لا نرضاه لهذه المكتبة العريقة، فإن التنوع الثقافي يثري العملية الثقافية، فلا ينبغي قصر نشاطها على اتجاه بعينه، فالمنتوج الثقافي لا يكون ثقافيا ولا يؤتي ثماره إلا من خلال التنوع الفكري وتنوع الإبداعات.

كذلك وكما ذكرت آنفًا لا ينبغي التركيز على المدن الكبرى ومكتباتها فقط، وإنما ضرورة ملحة أن نشجع الثقافة الجماهيرية في المحافظات والقرى والنجوع، ليس هذا وحسب، بل تفعيل دور الأندية الأدبية، فليس من المعقول أن تتحول النوادي الأدبية إلى مقاهٍ لشرب الشيشة والماء المثلج، وجلست للغيبة والنميمة، ولا ينبغي أن يكون هناك مكان يحمل لافتة بعنوان، نادي أدب كذا أو كذا.

لا أصدر الأحكام على عواهنها، ولا أقع في خطيئة التعميم، فهناك نوادٍ للأدب في منتهى الحيوية والنشاط، كنا لا نسمع عنهم، لكنهم أعلنوا عن أنفسهم من خلال ندواتهم الثقافية وأمسياتهم الأدبية بالجهود الذاتية، فشهادات التكريم، وحتى ما يقدم من واجب الضيافة للحضور عن طريق الجهود الذاتية، فهل يليق ذلك، لماذا لا تمد وزارة الثقافة يدها وتدعم هؤلاء؟!

 الأمر الرابع، كذلك ثم أمر في اعتقادي أنه مهم، ولو تمت معالجته معالجة جادة، فإنه من الممكن أن تتحقق الصحوة الثقافية المرجوة، إثراء فلسفة الحوار الثقافي، محليًا، وإقليميًا ودوليًا، ليس لفرد العضلات والتباهي بالمنتوج الثقافي، وإنما للاستفادة والإفادة، الاستفادة من المشروعات الثقافية في كل مجالات الثقافة والفنون والآداب، والإفادة عن طريق إحداث نوع من التواصل الثقافي بين الجميع، وهذا ما عبر عنه ابن سينا عندما قال، ويحكم إخوان الحقيقة، تحابوا وتصافوا وليكشف بعضكم لبعض الحجب، فإذا ما حدث ذلك وخلصت النوايا، فحتمًا ستزول الفوارق بين الأجناس، وحتمًا ستنمحي القطيعة الثقافية، وسيحدث ما نصبو إليه، صحوة ثقافية لا على المستوى المحلي أو الإقليمي فقط، بل على المستوى العالمي، وهذا ما نحلم به، تحقيق توأمة ثقافية عالمية يتم خلالها تبادل الخبرات الثقافية، ويحدث ما يمكننا أن نطلق عليه ثقافة الحوار، والحوار الثقافي.

الأمر الخامس، إن المعاناة التي يعيشها المثقفون الحقيقيون في بلدنا الحبيب لا يمكن أن تتحول إلى طموحات وآمال إلا إذا ما ألتفتت إليهم الأنظار، وتسليط الضوء عليهم من خلال كل وسائل الإعلام، المرئية والمسموعة والمقروءة، فبلدنا مليئة بأرباب الفكر والثقافة، وشواهدي على ذلك كثيرة، ندوات وصالونات ثقافية تعقد هنا وهناك، ندوات تعقد فى اتحاد الكتاب، وصالونات ثقافية تعقد في نقابة الصحفيين، ومؤتمرات ثقافية تعقد في الأقاليم، أين الإعلام من كل ذلك؟!

فلماذا لا تتم تغطية مثل هذه المنتديات الثقافية إعلاميًا، هل يعقل أن نسمع عن هذه الندوات مصادفة من خلال جهود فردية تقوم بنشر أخبارها على صفحات التواصل الاجتماعي.

إذا أردنا نهضة حقيقية للثقافة في بلدنا فلابد من أن يتحمل الجميع المسئولية كل في مكانه.

أستاذ الفلسفة بآداب حلوان

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: