في بلادٍ أنهكتها الحروب، وتناوبت عليها الأزمات من كل صوب، تتسلل آفة المخدرات كطاعون صامت، لا يُرى صراخه في الشوارع، لكن أثره ينهش جذور المجتمع من الداخل.
في ظل هذا المشهد القاتم، كان لا بدّ من وقفة جادة، ومن صوتٍ لا يكتفي بالتحذير، بل يسعى لصياغة الحل. ومن بين ضجيج السياسة ومراوغة الملفات، برز اسم النائب الدكتور عدنان برهان الجحيشي، رئيس لجنة مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية في البرلمان العراقي، لا كنائب يؤدي مهامه، بل كصاحب قضية يخوضها بروح المؤمن أن الإنقاذ لا يكون بالشعارات، بل بالرؤية، وبالإرادة، وبالعمل المتراكم.
كان لقائي معه في بغداد بمثابة سفرٍ في خريطة المواجهة العراقية لأخطر تحدٍ اجتماعي في العقد الأخير.
ءلم يكن الحوار حديثًا إعلاميًا تقليديًا، بل شهادة وطنية نزيهة، عكست حجم الألم، وتشعب الأزمة، ومحاولات الخلاص الممكنة وسط هذا الحصار المركب. جلست معه طويلًا، نستخرج من بين كلماته ملامح سياسة جديدة تتجاوز الحل الأمني، لتصل إلى جوهر الظاهرة: الإنسان، المجتمع، القانون، والوعي.
لم يكن تشكيل لجنة مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية في مجلس النواب العراقي قرارًا عابرًا، ولا استجابة طارئة لأزمة طفت على السطح، بل كان إعلانًا متأخرًا لضرورة سُكت عنها طويلًا.
هكذا وصف الدكتور عدنان برهان الجحيشي لحظة التأسيس، لا كمجرد استحقاق إداري، بل كصرخة تشريعية جاءت في قلب فراغٍ قانوني وتنفيذي استمر منذ صدور القانون رقم 50 لسنة 2017، الذي بقي لسنوات بلا تفعيل حقيقي.
بكل عمق وصدق، أدرك الدكتور عدنان الجحيشي منذ البداية أن أزمة المخدرات في العراق لم تكن كامنة في النصوص القانونية، بل في غياب الرؤية وتوزّع المسئولية على مؤسسات لم تكن ترى حجم الكارثة؛ فالقانون موجود، لكنه وُلد على هامش الأولويات، في وقت كانت السموم تنتشر في الشوارع والمدارس والمستشفيات بصمت قات، ومن هذا الإدراك تشكّلت لديه قناعة حاسمة: أن المواجهة الحقيقية يجب أن تُصاغ من قلب البرلمان، لا كردة فعل مؤقتة، بل كمشروع وطني دائم.
وما إن تسلّم رئاسة لجنة مكافحة المخدرات حتى تحوّل عمله من مهمة تشريعية إلى نداء وجودي، يرى فيه أن إنقاذ العائلة العراقية هو واجب شرعي وأخلاقي قبل أن يكون مؤسسيًا.
لم يحصر الجهد داخل أسوار اللجنة، بل نقل المعركة إلى قلب كل مؤسسة، مخاطبًا أعلى الهرم السياسي، ومُشرفًا على أدق التفاصيل الأمنية والتنظيمية بنفسه.
ورغم أن اللجنة بدأت رسميًا في مايو 2023، إلا أنها واجهت إرثًا ثقيلًا من الإهمال، لكنها لم تلتفت إلى لوم الماضي، بل ركزت على بناء رؤية إنسانية جديدة، تُعيد تعريف معنى المكافحة.
لم تعد الحرب مجرد مطاردة، بل صارت مشروع وعي، يُشرك المدرسة، والمنبر، والإعلام، والأسرة.
ومن هنا جاءت الإستراتيجية الوطنية المتكاملة، التي لم ترَ في المدمن عدوًا، بل إنسانًا انهزم أمام الجهل، البطالة، والتفكك الاجتماعي.
لذلك، لم تُعدّل القوانين لتشديد العقوبة فقط، بل لتزرع الأمل والوقاية والتعليم والتأهيل، مثلما استعارت مصر وجه محمد صلاح لتمرير رسائلها، استلهم العراق الفكرة، فأنشأ صندوقًا وطنيًا يُموّل من أموال التجار والمروجين، ليُعاد ضخّه في المصحات والبرامج التوعوية.
هكذا، تحولت المعركة من ردع عابر إلى مشروع وطني يبني الإنسان قبل أن يُدين الجريمة بكل أبعادها، لم تكن مواجهة المخدرات بالنسبة للدكتور عدنان الجحيشي مجرد معركة داخلية، بل حرب عابرة للحدود، تستدعي تحركًا دوليًا موازيًا.
من هنا، أُعيدت هيكلة المديرية العامة لمكافحة المخدرات، لتُمنح رتبة وكيل وزارة وصلاحيات تمتد لعقد الاتفاقيات الدولية وملاحقة الشبكات العابرة والتنسيق مع دول الإقليم والعالم.
لم يكن هذا تحركًا انفعاليًا، بل خطوة محسوبة ضمن رؤية شاملة تتعامل مع الظاهرة كبنية ممتدة، لا كحالات منفصلة، وفي قلب هذه الرؤية، كان الجهد التوعوي والإنساني حاضراً بعمق.
الأخطر في الظاهرة كما يرى الجحيشي لم يكن في المخدرات ذاتها، بل في الطريقة الجافة التي تعامل بها المجتمع مع المتعاطي، وكأن الإدمان جريمة خُلُقية لا مرض اجتماعي.
لسنوات، كان السجن هو الجواب، والعزلة هي العقوبة، حتى غدا المدمن مخلوقًا منبوذًا يُدفن حيًا في الظل، دون أن يُسأل أحد: من أين جاء، ولماذا انهار؟ ولهذا، دفعت اللجنة نحو تحول جذري: من العقوبة إلى الرعاية.
أصبح المتعاطي يُحوَّل إلى مصحة لا إلى محكمة، يُعالَج لا يُدان، بإشراف طبي ونفسي ومعايير دولية صارمة، ولم يتوقف الأمر عند العلاج، بل امتد إلى ما بعده، عبر آلية "الرعاية اللاحقة"، التي تمنح المتعافي فرصة حقيقية للعودة إلى الحياة: وظيفة، تدريب، احتواء، وبيئة جديدة لا تعيده إلى النقطة التي انهار منها أول مرة.
ومع إشراك الأطباء النفسيين وأخصائيي السلوك في النص القانوني، لم تعد المصحات مجرد أماكن للعزل، بل فضاءات إنقاذ تُرمم فيها الأرواح، وتُبنى فيها بدايات جديدة.
ومع امتداد يد الدولة لتحتضن المتعاطين في مصحات للعلاج والتأهيل، إلا أن اللجنة لم تكتفِ بإدانة رمزية، بل أعادت تفعيل النصوص الأكثر حسمًا في القانون، وعلى رأسها المادة (27/ثالثًا) التي تقضي بالإعدام بحق كل من يثبت تورطه في تجارة دولية للمخدرات، خاصة إذا مست السيادة أو الأمن القومي.
وفي عام واحد فقط، صدر حكم الإعدام بحق 144 تاجر مخدرات دولي، في دلالة صريحة على تحوّل جذري في آلية الردع، لم تكن الأحكام استعراضًا سياسيًا، بل نتيجة عمل دؤوب وتنسيق حقيقي بين أجهزة الأمن، المخابرات، مكافحة المخدرات، والقضاء.
لقد تحولت المعركة من ملاحقة صغيرة لتاجر شارع، إلى مواجهة مفتوحة مع شبكات إقليمية عميقة الجذور.
لقد خرج العراق من عزلته في هذا الملف، وبدأ يصوغ لنفسه نموذجًا خاصًا، حتى بات يُدعى من دول كالسعودية، مصر، قطر، الأردن، للاطلاع على تجربته.
هكذا، وبلغة لا تعرف المواربة، قال الجحيشي: هذه حرب لا تُخاض وحدنا، وهذه عدالة لا تُصالح القتلة. فيما كانت الاتفاقيات تُوقّع على طاولات السياسة، كانت الجبهة الميدانية مشتعلة دون توقف. الأجهزة الأمنية العراقية – من المخابرات إلى مكافحة المخدرات – عملت دون كلل، تتعامل مع المخدرات لا كمجرد تهريب، بل كتهديد للأمن القومي. العملية التي أحبطت تهريب 1100 كغم من الكبتاغون من سوريا إلى العراق، لم تكن مجرد نجاح أمني، بل إعلان سيادة، وإثبات قدرة دولة لا تتهاون مع من يزرع الموت في حدودها.
وعلى مستوى الداخل، لم يكتفِ الجحيشي بالتنسيق الأمني، بل أسّس لهيئة وطنية عليا يرأسها وزير الصحة وتضم كبار مسئولي الدولة، تُجري تقييمات دورية بشفافية، محافظةً محافظة، وخطوةً خطوة.
أما المجتمع، فلم يُستثن من هذه الحرب منظمات مدنية، بلا تمويل أو دعم، دخلت المعركة بإيمان نقي أن الوعي هو خط الدفاع الأول، وأن الوقاية تبدأ من منبر الجمعة، ومن داخل البيت، ومن "المقهي".
وفي خضم كل هذا، ظل ملف المتعافين الجرح المفتوح، الجحيشي يسميها "المعركة المؤجلة".
المتعافي، بعد أن يُشفى، يواجه بوابة أشد قسوة من الإدمان: مجتمع يرفضه، مؤسسات تُقصيه، ووظائف لا ترى فيه إلا ماضيه لا حاضره. يتحول إلى إنسان معلّق، كأن الغفران حرام على الضعفاء. ولهذا، لم تكتفِ اللجنة بالعلاج، بل دفعت نحو تشريع "الرعاية اللاحقة"، لضمان وظيفة، تدريب، دعم نفسي واجتماعي. فالمشكلة ليست في شفاء الجسد، بل في إعادة بناء الكرامة.
خرجت من هذا اللقاء مع الدكتور عدنان الجحيشي وأنا أتنقل بين وجوه متعددة للمأساة: متعاطٍ أُهمل، ومتعافٍ أُقصي، ومؤسسة لا تسمع إلا صوت الخوف، ودولة تحاول أن تُبصر الطريق بعد سنوات من العمى. لكنني في الوقت ذاته، رأيت إرادة سياسية بدأت تُشبه ما كنّا ننتظره، ورجلًا في البرلمان لا يكتب القوانين فقط، بل يعيشها، ويقاتل من أجلها. ولعل في صوت الدكتور الجحيشي درسًا خفيًا لنا جميعًا:
أن مواجهة الخراب تبدأ حين نكف عن اعتباره طبيعيًا، وحين نُصر على أن العودة من الجحيم، ولو كانت مؤلمة، تستحق أن تُكتب لها نهاية كريمة.