الوعود الانتخابية لترامب كانت أكبر كثيراً مما تحقق على أرض الواقع، وربما لن يستطيع تحقيق أكثرها على المدى القريب، كان واثقًا أن باستطاعته إنهاء الصراعات كلها خلال أيام: فلا حرب في أوكرانيا، ولا عدوان في غزة، ولا قلق من إيران، ولا تهديد صيني ضد تايوان، غير أن الذي حدث ويحدث ينذر بأن تلك الصراعات قد تمتد وتتفاقم.
على صعيد آخر استطاع ترامب تحقيق منجزات محدودة على المستويين الداخلي والخارجي، فأصدر قرارًا بخفض أسعار الدواء بأمريكا؛ لنيل الرضا الشعبي، كما تمكن من إخماد فتيل حرب أوشكت على الاشتعال بين الهند وباكستان، وحصل على دعم مالي هائل من جولته الخليجية ستمكنه مستقبلًا من الإنفاق على ملفاته الخارجية والداخلية بشكل مريح.
فهل كانت ثقة ترامب فيما يستطيعه أكبر من توقعاته؟! وهل سيتمكن من إدارة مختلف الملفات الملتهبة كما يحب، أم تنزلق الدفة من بين يديه فيضل سبيله إلى الاستقرار العالمي المنشود؟!
تنين خلف السحاب
الخوف الأكبر لترامب هو من الصين.. ظهر هذا جليًا في الخطاب الحاد الذي ألقاه وزير الدفاع الأمريكي بيت هيجسيث في قمة شانغريللا محذرًا من أن الصين تمثل تهديدًا وشيكًا لتايوان؛ وأنها تقوم بتدريبات يومية ومحاكاة مستمرة لغزو الجزيرة، وأن الموعد المحتمل للضربة الصينية فى تقديرات البنتاجون هو عام 2027، عندما تصبح القوات الصينية في كامل جاهزيتها لخوض الحرب.
سارعت السفارة الصينية في سنغافورة بالرد على خطاب وزير الدفاع متهمة هيجسيث بإثارة الاستفزازات، وأن الولايات المتحدة الأمريكية هي المزعزع الأكبر للسلام الإقليمي.
وفيما كانت أمريكا قد اعتادت على الإنفاق بسخاء على تسليح تايوان والدول الحليفة لها في منطقة جنوب شرق آسيا؛ كما حدث في أواخر ديسمبر من العام المنصرم في ظل إدارة بايدن، قبيل تسلم ترامب مقاليد الحكم، بدا أن إدارة ترامب لها نهج مختلف؛ فقد صرح "بيت هيجسيث" بأن الردع ضد الصين لا يمكن أن يأتي مجانًا؛ داعيًا دول آسيا إلى زيادة إنفاقها الدفاعي، أسوةً بحلفاء أمريكا فى أوروبا، وأن بعض دول حلف الناتو كأستونيا وألمانيا بدأت فى اتخاذ خطوات جادة فى هذا الصدد؛ أي أن الدعم الأمريكي لن يستمر كالسابق!
خطاب وزير الدفاع أتي بعد عدد من المواجهات السياسية بين أمريكا والصين؛ أولها ما حدث من مضاعفة قيمة الجمارك على البضائع، ثم تأجيل القرار باتفاق بين الطرفين يسري لمدة ثلاثة أشهر، ثم المواجهة الأهم التي حدثت بين أمريكا والصين من وراء الكواليس، عندما واجهت الهند ذات التسليح الأمريكي الغربي دفاعات باكستان ذات التسليح الصيني، فظهر التفوق الواضح لصالح صواريخ الصين ذات القدرات عالية التدمير والكفاءة؛ ما جعل أمريكا تزداد قلقًا تجاه التنين الصيني الرابض خلف السحب، ينتظر الفرصة لينفث من فمه كرة النار!
اختراق روسيا
الجولة الثانية في مفاوضات وقف إطلاق النار التي جرت بين روسيا وأوكرانيا بإسطنبول لم تسفر عن تقدم، وكان هذا متوقعًا فى ظل التصعيد الميداني الخطير الحادث بين الطرفين، والذي قد ينذر بالأسوأ!!
أما عن روسيا؛ فقد استمرت فى توغلها بمنطقة خاركيف؛ فنفذت عدة هجمات صاروخية دامية على مدينة سومي بالشمال الشرقي، فيما نفذت أوكرانيا عملية نوعية هي الأخطر منذ بدء القتال تزامنًا مع المفاوضات، فكان توقيتها من بين أهم أسباب فشل المفاوضات.
العملية التي أطلق عليها اسم: "شبكة العنكبوت"، كان يجري الإعداد لها وفقًا لزيلينسكي منذ نحو 18 شهرًا، وهي تتضمن عدة اختراقات مخابراتية لمناطق عسكرية فى الداخل الروسي، من خلال إخفاء طائرات مسيرة صغيرة الحجم مدججة بالقنابل داخل شاحنات ذات أسقف يمكن التحكم بها عن بعد، بهدف ضرب قواعد جوية على بعد آلاف الكيلومترات من كييف!
العملية التي فاجأت الجميع تسببت فى خسائر هائلة للجيش الروسي، مادية ومعنوية، فقد أعلنت أوكرانيا أن أكثر من أربعين طائرة روسية تعرضت للتلف أو التدمير الكامل، وأنها تمثل نحو 20% من القاذفات الروسية بعيدة المدى، والأدهى أنها الطائرات الأكثر جهوزية لخوض الحرب، ينما باقي الطائرات تخضع للصيانة، ما يجعل خسارتها أشد إيلاما لموسكو.
أكثر من هذا أن الهجوم المتزامن حدث فى نحو أربع نقاط بعيدة عن بعضها، بخلاف هجوم آخر استهدف جسورًا داخل روسيا، تسبب تفجير إحداها لإصابة قطار ووفاة بعض ركابه، مما ضاعف خسائر الجانب الروسي.
الواضح أن هناك دعمًا مخابراتيًا واسعًا تلقته أوكرانيا، والأرجح أنه دعم أوروبي من بريطانيا وألمانيا اللتين تميلان لاستمرار الحرب، بخلاف أمريكا التي تريد إنهاءها.
ومن المؤكد أن الخطة الأوروبية نجحت فى استفزاز روسيا التي توعدت برد قاسٍ قريبًا.
حصار نتنياهو
ليست غزة وحدها هي المحاصرة!! صحيح أنها تعاني ويلات التدمير والتجويع والقصف المستمر منذ ما يربو على 600 يوم، إلا أن إسرائيل على الجانب الآخر تعاني وتئن!!
الدليل على ذلك ما حدث في جباليا من استهداف مجموعة قتالية إسرائيلية سقط على إثره عدد من الضباط والجنود الإسرائيليين، بخلاف خسارة مدرعة من نوع هامر، وتلا ذلك الهجوم استهداف صاروخي لمنطقة الجولان؛ ما تسبب فى ارتباك في صفوف الجيش الإسرائيلي، غير أن الأخطر هو ما يحدث من حصار حول نتنياهو وحكومته من أكثر من جهة: فالكنيست يشتعل بحوارات نارية بين أعضائه، تصل إلى حد التلاسن والصراخ والطرد من الجلسات، والشارع الإسرائيلي يضج بمظاهرات تطالب بوقف الحرب واستعادة الأسرى، والمحاكم الإسرائيلية تطارد نتنياهو باتهامات وقضايا توشك أن تدينه، وإدارة ترامب تضغط على نتنياهو لوقف حرب يراد لها أن تستمر بلا طائل ولا أفق واضح لما سيأتي بعدها.
"السبيل الوحيد لنتنياهو للاستمرار في منصبه يأتي عبر الاستمرار فى الحرب" تلك حقيقة أكدتها تصريحات مسئولين إسرائيليين سابقين، أدركوا أن الطريقة الوحيدة لوقف حرب لم يحققوا فيها شيئًا من أهدافها تتمثل في إقصاء نتنياهو!! فهل تنجح ضغوط الداخل الإسرائيلي في التخلص منه؟! وأي الحصارين سوف يؤتي ثماره: حصار غزة أم حصار نتنياهو؟!
شرارة تنتظر الاندلاع
الخيوط كلها تنتهي إلى أصابع ترامب..
باستطاعته الضغط على نتنياهو أو على من حوله لوقف الحرب على غزة، لكنه لم يفعل بعد، ويمكنه إجراء لقاء ثلاثي مع بوتين وزيلينسكي، لكنه قرر أن يؤجل مثل هذا الاجتماع، لاسيما وقد حدث ما حدث من هجوم أوكراني يستلزم ردًا عسكريًا من روسيا، وباستطاعة ترامب وقف حربه الاقتصادية ضد الصين، والتوقف عن استفزاز جيرانه في بنما وكندا والمكسيك، أو التلويح بأطماعه الاقتصادية والتجارية وحتى التوسعية، غير أنه يفضل أن يترك كل الأمور على الحافة، وأن يدفع بخصومه نحوها لتنحصر خياراتهم في دائرة ضيقة، ويصير من السهل على ترامب ابتزازهم بما يشاء.
غير أن المنهج الترامبي في إدارة ملفات السياسة الخارجية لأمريكا ليست دائمًا ناجحة؛ بدليل أنه تراجع عدة مرات في قرارات اتخذها، كقرار فرض الجمارك، وقرار الحرب المحدودة ضد اليمن، ثم إن إدارة ترامب نفسها تعاني تصدعًا لم يحدث مثيله فى أية إدارة أمريكية سابقة، فسرعان ما تم الاستغناء عن عدد من المستشارين وأعضاء الحكومة، كان آخرهم وأهمهم إيلون ماسك.
ولا شك أن مثل هذا الخلل سوف تكون له تبعاته على الأداء الحكومي فيما بعد، وربما أفلتت عجلة القيادة من يد ترامب فتجنح سفينته من حيث يريد لها أن تستقر، وربما طارت شرارة من هنا أو هناك لتشتعل الأوضاع أكثر في تايوان أو في أوروبا أو في إيران أو باكستان؛ وحينها قد يجد ترامب نفسه داخل معمعة طالما حاول أن يتجنبها.