الدلالات الأخلاقية في الحج

4-6-2025 | 10:06

إنها رحلة ليست ككل الرحلات، إنها الرحلة المباركة التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم: "لا تُشد الرحال إلا لثلاث: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى". ففي كل عام تُشد الرحال إلى المسجدين الحرام والنبوي، لماذا؟ لأداء فريضة الحج مرة كل عام، أما العمرة فمفتوح بابها طوال العام. لماذا؟! "ليشهدوا منافع لهم". ليشهد الحجيج كل الخيرات الحسان، كل الرحمات والرضوان والغفران.

ألم يقل الله تعالى لملائكته: "انظروا إلى عبادي أتوني شعثًا غُبرًا، تركوا أموالهم وأولادهم، وأتوني يرجون رحمتي ويخشون عذابي، أُشهدكم أني قد غفرت لهم". ألم يُهيل إبليس التراب على رأسه نائحًا: "أغويهم طيلة العام، ويأتون في هذا الموقف، يقصد عرفات الله، فيغفر الله لهم". نعم، إنها الرحلة الروحانية المباركة، التي اجتمعت فيها الراحتان، فعلى الرغم من مشقة أداء المناسك، إلا أن الحاج لا يشعر بنصب ولا تعب عضوي من قداسة المشهد، فتطغى الروح على البدن فيصير المرء روحانيًا خالصًا، ويتمنى ألا يعود إلى جبلته الطينية.

ففي كل ركن من أركان الحج مشاهد ومواقف وتجليات نورانية ربانية، عبرت عنها قصيدة "القلب يعشق كل جميل"، فالإنسان دائمًا يظن أن ما يراه جميل وما تقع عليه عينه جميل، أما عندما يرى الجمال المفارق الذي فارق كل جمال متوهم، يستشعر وقتها أنه لم يرَ جمالًا قط.

يقول تعالى: "وأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ". فقد أمر الله سبحانه وتعالى سيدنا إبراهيم وابنه إسماعيل إكرامًا لهما أن يبنيا لله بيتًا، يقول الله تعالى: (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ∗ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا).

فلما أتما البناء، قال إبراهيم: "ماذا أفعل يا رب؟" قال له الله: "أذِّنْ في الناس بالحج". قال إبراهيم: "وهل سيصل صوتي؟" وهذا ليس سؤالًا استنكاريًا، وإنما سؤال استفهامي، قال الله: "عليك النداء وعلينا البلاغ"، مصداقًا لقوله تعالى: (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ).

فالنداء سيسمعه الكون بفعل القدرة الإلهية اللامتناهية، والتي ترجع عدم محدوديتها إلى فعل الكينونة (الكاف والنون)، ومن وقتها وعلى مر العصور يتوافد الحجيج إلى بيت الله الحرام. وفضلًا عن الدلالات الاجتماعية والنفسية والسياسية لهذه الفريضة المشروطة بالاستطاعة، سواء الاستطاعة المادية أو المعنوية. إلا أن ثمة دلالات أخلاقية تتمثل فيما يلي:

أولًا: السمع والطاعة، فلم يناقش إبراهيم عليه السلام ربه في كل ما طلب منه، كل ما فعله وقاله: "سمعنا وأطعنا"، ونفذ الأمر امتثالًا إلى الله سبحانه وتعالى، فلم يجادل مثلما جادل اليهود وتحايلوا على الله سبحانه وتعالى وفضحهم الله تعالى في غير ذي موطن في آي القرآن الكريم.

نعم، إنه السمع والطاعة، فمنهجنا الاتباع وليس الابتداع، والاتباع يتمثل في قوله تعالى: (وَاتَّبِعْ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ). اتباع عن اقتناع والشاهد: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَىٰ ۖ قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن ۖ قَالَ بَلَىٰ وَلَٰكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي)، واطمئنان القلب إنما هو هدوء وسكينة للعقل.

ثانيًا: التخلي، بمعنى أن يتخلى الإنسان عن كل ما هو موبق، ويترك الدنيا بما فيها وعلى ما فيها، يترك عمله، وماله، وولده، وزوجه، ويتجه قلبًا وقالبًا، يتجه بكليته إلى الله، رافعًا شعار: "إني ذاهب إلى ربي سيهدين". يتخلى عن كل الصفات المذمومة، كل الصفات البشرية من شهوة مأكل ومشرب، مطهرًا نفسه من أدران الجسد البالي الفاني.

ثم يتحلى بكل صفات الجمال والجلال والبهاء والطهر والصفاء. لماذا؟ لينال الحظوة والقبول، ويتجلى عليه الإله بالعفو والغفران، ويغتسل بماء الحب، فيعود كيوم ولدته أمه صفحة بيضاء. فيتعامل مع بني جلدته بالأخلاق الكريمة، ولم لا وقد غسله الله تعالى بماء الود والوداد.

ثالثًا: في حديثه القدسي جل وعلا: "يا ملائكتي انظروا إلى عبادي أتوني شعثًا غُبرًا من كل حدب وصوب يرجون رحمتي ويخافون عذابي، أشهدكم أني قد غفرت لهم".

في هذا المشهد المهيب تتجلى كل صفات التواضع، ليس ثم فرق بين غني وفقير، غفير ووزير، الكل يرتدي إزارًا واحدًا، الكل يسوده الحب، الجميع يرفع يده إلى الكبير المتعال، تفيض كل العيون بالدموع، تذوب وتنصهر المناصب، لا عنصرية، لا فروقات طبقية.

الكل يصافح الكل، الجميع يقول في نداء تتزلزل له الجبال والسموات: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك. إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك لك"، إقرار بالعبودية للواحد الأحد.

رابعًا: التعاون بين الناس، انظروا بعين الاعتبار إلى هذا المشهد: السيدة العجوز، والشيخ المسن الهرم يحملهما الشباب على الأعناق، أو يجرون لهم الكراسي المتحركة، أو يخدمونهم في خيام الحجيج، ليس هذا فحسب، بل ويوفرون لهم كل ما يحتاجونه. وإذا لا قدر الله ضلوا الطريق، يصلون بهم إلى ذويهم وأماكن إقامتهم، أي جمال بعد هذا.

خامسًا: ما الذي حمل هؤلاء وهؤلاء من كافة أرجاء المعمورة، وتحملهم مشقة السفر، وتحملهم غلو النفقات؟!!

إنه الحب لله تعالى، ما أروعها قيمة الحب، الحب لله والحب في الله، أليست هذه القيمة روح الفكر الأخلاقي، المحبة التي دعا إليها الله تعالى: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ). أليست المحبة طريقًا لتحقيق السلام بين الشعوب؟!

الإجابة واضحة بذاتها، نعم، وكل الأنبياء والمرسلين دعوتهم السلام، وكل المصلحين والمفكرين والباحثين في الأخلاق بغيتهم نشر المحبة بين الناس.

ويبقى السؤال: ما الدلالة الأخلاقية في هذه الآية الكريمة؟! الإجابة واضحة بذاتها لا مراء فيها، عبر عنها النبي صلى الله عليه وسلم وبارك في حديثه الشريف: "من حج ولم يرفث أو يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه".

عاد صفحة بيضاء لم ينتقش عليها شيء من محدثات دنيانا التي نعيشها، عاد نقيًا تقيًا صافي القلب، طاهر السريرة، لين الجانب، خلوقًا، سمحًا، عطوفًا، ودودًا، متعاونًا. ألسنا الآن في حاجة إلى كل هذه الخصال الحسنة، بعدما كثر الخبث وانتشر فحش القول، وانتشرت الرذائل في أبشع صورها.

إنها رحلة مباركة ميمونة كتبها الله لكل مشتاق تتوق روحه إلى البيت العتيق.

أستاذ الفلسفة بآداب حلوان

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: