المعجم التاريخي للغة العربية .. والصوت الوفي

2-6-2025 | 17:29

لأننا أصحاب علمٍ ومعرفةٍ وثقافةٍ، فإن انبثاق ضوءٍ عربي قوي مفاجئ للعلوم الإنسانية بين آن وآخر في هذا العالم، وعبر الأزمنة المتلاحقة يعيد لحياتنا نضارتها ويعزز في نفوسنا الثقة، فما أبدع أن يذكرنا مثل الضوء بما يمكننا إنجازه، المسألة مسألة همة وإصرار وإيمان بأنا قادرون على أن نكمل رحلة المؤلفات الضخمة التي تحفظ للإنسانية كنزًا علميًا ومعرفيًا ومختلفًا عن السائد.. وهو بيت القصيد.

منذ أن بدأ العمل بالمعجم التاريخي للغة العربية، ونحن في حالة انتظار لما يمكن أن يتضمنه كتاب معجمي، هل هو شرح للمفردات وتبيان للمرادفات، هل هو جذور الكلمات واشتقاقاتها، هل سيكون بضخامة معجم "لسان العرب " الذي تتفرع فيه الكلمة إلى قصص وحكايات وأبيات شعرية  وغيرها.. لكن كلمة "التاريخي" في اسم معجمنا يلهمنا بأن أزمنة تسير في هذا الكتاب وتنقلنا معها عبر اللغة العربية إلى مراحل تطور ثقافتنا العربية والإسلامية. 

فالمعجم التاريخي للغة العربية فتح عربي ثقافي رائد، وسابقة علمية مضيئة في الثقافة الإنسانية، والذي أدرج في مكتبة اليونسكو بباريس في احتفال كرم فيه رائد الفكرة وقائدها وداعمها بكل الإمكانات التي جعلها إنجازًا مشهودًا بعد أن كان مشروعًا يحلم به عاشقو لغتهم.. صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي – عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، الذي وقفنا معه بقلوبنا ومشاعرنا الدفاقة بالحب والاعتزاز على منبر اليونسكو في باريس.. بهيئته العربية ولغته العربية وإنجازه العربي ليقول للعالم: إن الجهد العربي حين يتحقق بإخلاص وروح جماعته يحظى إنجازه بالتقدير والاحتضان العالمي.

إننا كأمة كتب علينا أن سر رقينا وتوقير العالم لنا هو العلم ونشره، بشهادة العالم نفسه والذي لا يخلو من علمائه المنصفين في نظرتهم، وتأكيداتهم مرارا في مؤتمراتهم وبحوثهم ومحاضراتهم بأن فتوحاتنا الإسلامية العلمية هي أساس ما وصلت إليه الاختراعات الحديثة، والتي تربط البشرية بين ما كان من أسس علمية حضارية وما أصبح عليه بناء الحضارة اليوم، مما يؤكد أن البشرية مجتمع واحد تفرع إلى مجتمعات تحكمها ثقافة ومكان ووسيلة تفاهم (لغة) وأسلوب حياة.. وغيرها مما تتضمنه الخصوصية لكل مجتمع عن آخر، لكنها جمعت على أصل بشري واحد يعيش في كون عظيم مليء بالأسرار التي تملأ العقل أسئلة وشغفاً بالبحث، وتملأ الوجدان تأملا ورغبةً في ملاحقة ما يكشف عنه من القليل المتاح لنا لكشفه: "وما أوتيتم من العلم إلاّ قليلاً".. صدق الله العظيم

ويرمي "المعجم التاريخي للغة العربية" الذي أدرج اليوم بين أمهات الكتب في إحدى المكتبات العالمية الأكثر اتساعًا في ضم الثقافات الإنسانية وشمولا لكل المؤلفات بكل اللغات، هذا المعجم الذي يرمي إلى إعادة اكتشاف اللغة العربية اكتشافًا علميًا، وهو ماتستحقه كل لغة في العالم ليتم اكتشافها بالطريقة العلمية المعمقة ذاتها كما قال صاحب السمو الحاكم في كلمته وبرؤية عادلة لأهمية لغات الشعوب في تقوية أواصر التنوع الثقافي الذي لا غنى للبشرية عنه في إثراء وجودها، فمع تفرد اللغة العربية بكل محتواها من ثراء معرفي وكنوز فكرية وفضاءات بلاغية قل نظيرها في اللغات الأخرى، وحيث إنها "لسان القرآن الكريم" آخر الكتب السماوية التي تعد دستورًا للبشرية يحدد مسارات الحياة ويبين طريق الإنسان من الولادة وحتى نهايته، فإن سموه يؤكد أن كل لغة تستحق اهتمامًا خاصًا من قبل أهلها وعلمائها ودارسيها، فهو "العدل الثقافي الذي يقتضي ألا تختزل الإنسانية في لغة واحدة، ولا تختصر حضارات الشعوب في نموذج واحد، فكما أن التنوع البيئي ضمانة لاستمرار الحياة، فإن التنوع الثقافي واللغوي هو الضمانة لاستمرار الإبداع الإنساني وتجدّده".

إن هذا المعجم إنجاز علمي ناصع في ظلمة الأحداث الحالكة التي تعصف بوجود آمن للإنسان على وجه الأرض، إنجاز يستحق أن يجتمع له علماء الدين واللغة والتاريخ لسبر أسراره والبحث في معلوماته وتتبع تطوراته عبر قرون.. علماء مختصون في علوم اللغة العربية وتاريخها، وتاريخ المنطقة وأعلامها وحكايات عربية تعزز مكانة اللغة في الأوساط العلمية، فهو عمل له علاقة بتاريخنا كعرب ومسلمين، وبوجودنا كمؤثرين منذ أزمنة بعيدة تعددت عبرها المعتقدات والاتجاهات والثقافات، والمتأمل في كلمة صاحب السمو الحاكم يقرأ بوضوح تلك النبرة الوفية للتاريخ، فأنت تستمع لمؤرخ يدعوك للاطلاع على تاريخ لغتك إن كنت عربيًا، وتاريخ لغة إنسانية غير عادية - إن كنت غير عربي - تدفعك للغوص في بحارها ولا تعود من غوصك إلا بدرر ثمينة.. وتطلع على دور اللغة العربية في احتضان ثقافة الأمة ودفع هذه الثقافة المحملة بفضاءات إنسانية بعيدة المدى ليكون لها حضور مؤثر في كل ثقافة تتعرف عليها، فهي ليست مجرد لغة للحكي ولتبادل الحوارات العادية الضرورية لتسيير أمور الحياة، بل هي نشاط حي نابض يحمل تراث أمة، وهي "أداة التعبير لدى الفلاسفة والعلماء، ووسيلة إبداع الشعراء والمفكرين، وهي إلى يومنا هذا تُواصل أداء رسالتها في ساحات المعرفة"، كما جاء في كلمة صاحب السمو حاكم الشارقة في اليونسكو منذ أيام قليلة.

لقد بدت لغتنا مع مرور الزمن وكأنها كتاب تناثرت أوراقه بين أحداث وتطورات وظروف مختلفة، واعتراها كأي ثقافة إنسانية تغيرات قد لا تبدو في صالح بقائها منارة للعلوم والثقافة والإبداع، فكان لا بد من جمع هذه الأوراق وترتيبها حسب رؤية القائمين على المعجم، خشية أن تزداد تبعثرًا ويضعف حضورها في ظل ما يأتي أحيانًا على حساب الثقافة الأصيلة الراسخة -لا المتغيرة- والتي تميز كل شعب عن غيره، فاللغة العربية تستحق أن تكون في الصدارة وأن تبقى حاضرة لا من أجل حمايتها وحسب، ولكن لتظل حاملة للثقافة الإنسانية وتاريخها الأصيل الذي ازداد وهجًا ونورًا مع نزول الوحي بها كلغة ختم بها الخالق سبحانه كتبه المنزلة.. كان لا بد من خطوة تتجاوز هدف الحماية إلى هدف نشر العلوم المرتبطة بها، نعم: "كانت تفتقر إلى مشروع علمي يؤرخ تطور مفرداتها ودلالاتها عبر العصور كما هو في اللغات الأخرى، ومن هنا جاء المعجم التاريخي للغة العربية حلمًا تحول إلى مشروع، ومشروعًا صار إنجازًا، بفضل تضافر الجهود، وتكامل الخبرات، وإرادة لا تعرف التراجع"*

 يحق لنا أن نفخر بهذا المشروع الضخم الذي أصبح إنجازًا، وأن نفخر بأن الشارقة بسلطانها العالم الجليل احتوت كل الجهود التي بذلها كبار علماء اللغة المعاصرين والمؤرخين والمدققين وغيرهم ممن عكس إنجاز المشروع عملهم الاستثنائي المبذول لظهوره والاحتفاء به محليًا وعربيًا وعالميًا، والذين حياهم سموه في كلمته، مشيرًا إلى مجامع اللغة العربية والمعاهد والمؤسسات العاملة في هذا المجال ممن ساهمت في تنفيذه، وهو إنجاز يدفعنا بخطوة أخرى نحو التلاقي، ملهمًا إيانًا بما ختم به الشيخ سلطان كلمته: 
• تعزيز الحوار الثقافي بين مختلف الاتجاهات الفكرية. 
• العمل على صون الإرث الإنساني المشترك.
• العمل على أن يكون الصوت الثقافي مسموعًا بكل اللغات.
• احترام الشعوب وثقافاتها ولغاتها، واحترام تمسكها بهويتها.
 
مع التواصل المستمر (يداً بيد) لتحقيق الرفاهية لهذه الشعوب، منطلقةً من العلوم والمعرفة، فليس بعد المعرفة رفاهية، وليس بعد العلم تتويجًا على عرش الحياة.

وتظل الشارقة كوكبًا لا ينطفئ ضوؤه بإذنه تعالى في سماء البحث العلمي للمحافظة على المكتسبات الإنسانية المتمثلة في الثقافة ونشرها في العالم، يمتدُ في فضاء الإمارات التي نعتز بانتمائنا لهويتهَا، ويظل العلم هو لغة السلام التي يرغب العالم بالتحدث بها، ولغة الفخر والاعتزاز التي تتوج قلوبنا حبًا لصاحب السمو حاكم الشارقة، وقرينته رفيقة الطريق.. حُبًا للشارقة ولدولة الإمارات العربية المتحدة. 

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: