2-6-2025 | 16:20

لماذا أصبحنا نخاف من بعضنا؟! فلم يعد الخوف الاجتماعي أمرًا عابرًا يمكن تجاوزه بسهولة، بل أصبح ملمحًا رئيسًا من ملامح واقعنا اليومي، وصار كثير من الناس يتحسسون خطواتهم في العلاقات الإنسانية، ويضعون مسافات واسعة بينهم وبين الآخرين، بل ويتعاملون مع الجار أو الزميل أو حتى القريب بحذر مفرط، كأن الأصل في العلاقات أصبح التوجس، والاستثناء هو الاطمئنان.

السؤال الذي يطرح نفسه بإلحاح: لماذا أصبحنا نخاف من بعضنا؟! الإجابة تتطلب الغوص في عمق البنية الاجتماعية والثقافية التي تحكم حياتنا، وفهم الأسباب التي أدت إلى تآكل الثقة المجتمعية، وانتشار ثقافة الشك.

الثقة المجتمعية هي الركيزة التي تقوم عليها حياة الناس معًا، وهي التي تتيح للأفراد التفاعل والتعاون والعيش في بيئة يشعر فيها كل طرف بأن الآخر لا يشكل تهديدًا له. 

وعندما تنهار هذه الثقة، يصبح كل شيء هشًا، وتتراجع الروابط، ويحل الحذر محل الطمأنينة، والانكماش محل الانفتاح، والخوف محل الألفة.

من أبرز أسباب هذا التآكل في الثقة ما شهدته مجتمعاتنا من تحولات اقتصادية واجتماعية سريعة وغير متوازنة؛ حيث قلت أدوار الدولة في الرعاية، وتزايدت حدة المنافسة، وصعدت قيم الفردية والمنفعة على حساب قيم التضامن والمسئولية المشتركة. 

في ظل هذا المناخ، أصبح الإنسان أكثر قلقًا على مستقبله، وأكثر ميلًا لحماية مصالحه الذاتية ولو على حساب الآخرين، فاختلت منظومة العلاقات، وتراجع الإيمان بالقيم الجامعة.

ولعب الإعلام دورًا في هذا السياق، حيث ساهمت التغطيات اليومية لأخبار الجرائم، والخداع، والانتهاكات، في ترسيخ صورة قاتمة عن المجتمع، حتى بات الكثيرون يظنون أن الشر هو القاعدة والخير هو الاستثناء. 

هذا النمط من الخطاب الإعلامي يغذي ثقافة الخوف، ويعزز مشاعر الانعزال، ويجعل من الطبيعي أن ينظر الإنسان إلى الآخر بعين الشك لا بعين الثقة.

كما ساهمت عوامل أخرى في تفكيك روابط الثقة، أبرزها ضعف التنشئة القيمية في مؤسسات الأسرة والتعليم، وغياب القدوة الصالحة في الحياة العامة، وانهيار المعايير الأخلاقية في بعض مناحي الحياة اليومية. 

وحين تنشأ الأجيال في فراغ قيمي، وتتعلم أن النجاح يقترن بالخداع، وأن الطيبة تُفسر ضعفًا، فإن الخوف يصبح وسيلة دفاع لا مفر منها.

ولا يمكن تجاهل أثر التجارب الفردية المؤلمة التي مر بها كثير من الناس، سواء من خلال علاقات إنسانية فاشلة أو تعاملات أفضت إلى خيبات مؤلمة. 

هذه التجارب تراكمت، وتحوّلت إلى قناعات عامة، عززت الحذر، ورسخت منطق "الاحتياط واجب"، ودفعت كثيرين إلى الانغلاق ورفض الانخراط في علاقات جديدة.

ولعل أخطر ما في هذه الظاهرة هو تجذرها في تفاصيل الحياة اليومية؛ فالخوف لم يعد شعورًا داخليًا خافتًا، بل أصبح سلوكًا ظاهرًا: شباب لا يثقون في تكوين صداقات جديدة، جيران لا يعرفون بعضهم، زملاء عمل يحيطون أنفسهم بأسوار نفسية، وأسَر يفضل كل فرد فيها العزلة عن الآخر؛ حتى في أبسط المواقف، كطلب المساعدة في الشارع أو التفاعل مع الغريب، بات الحذر هو سيد الموقف.

إن استمرار هذا المناخ من الشك والخوف يؤدي إلى نتائج خطيرة؛ فهو يُضعف النسيج الاجتماعي، ويقلل من فرص التعاون، ويعوق المبادرات المجتمعية، ويغلق الباب أمام التغيير الإيجابي. 

كما أنه يولد مشاعر الوحدة والإحباط، ويزيد من الضغوط النفسية التي قد تؤدي بدورها إلى الاكتئاب أو العنف أو الانسحاب من الحياة العامة.

ومع ذلك، فليس هذا الواقع قدرًا محتومًا. استعادة الثقة المجتمعية ممكنة، لكنها تحتاج إلى جهد طويل المدى يبدأ من الوعي الفردي وينتهي بإصلاح السياسات والمؤسسات. 

البداية تكون من إعادة الاعتبار لقيم الصدق، والتعاون، والاحترام المتبادل، في البيت والمدرسة ووسائل الإعلام. 

ويجب أن يكون هناك تركيز على قصص النجاح، ونماذج النبل، وصور التكاتف، حتى يدرك الناس أن الخير موجود، وأن الثقة ليست غفلة بل شجاعة.

ويكمن جزء كبير من الحل في تعزيز العمل المجتمعي، ومشاركة الأفراد في أنشطة جماعية تنمي روح التفاهم والتكافل؛ فحين يعمل الناس معًا من أجل هدف مشترك، تتلاشى الحواجز النفسية، ويكتشفون أن الآخر ليس خصمًا، بل شريك في الإنسانية.

كما أن ثقافة التسامح والاعتذار يجب أن تُشجَّع، فكلنا نخطئ، لكن ما يُعيد بناء الثقة هو القدرة على تجاوز الخطأ، والاعتراف به، والمسامحة عليه. 

المجتمعات المتصالحة مع ذاتها هي المجتمعات التي تتجاوز الألم، ولا تسمح له أن يتحول إلى حاجز دائم بين الناس.

نحن نخاف من بعضنا؛ لأننا فقدنا الإحساس بالأمان، وشككنا في نوايا الآخرين، وتجاربنا علمتنا الحذر أكثر مما علمتنا التواصل، لكن هذا الواقع يمكن تغييره إذا قررنا أن نفتح نوافذ الثقة من جديد، ولو بحذر، وأن نمنح الآخر فرصة لإثبات أنه جدير بها.

فالحياة بلا ثقة تصبح عبئًا، والمجتمع بلا أمان نفسي يتحول إلى ساحة من العزلة والضياع.

أستاذ علم الاجتماع الثقافي - كلية الآداب - جامعة طنطا

[email protected]

كلمات البحث