هجرة الأطباء: أزمة تتطلب حلاً ممنهجًا

31-5-2025 | 12:57

في أحد مشاهد فيلم “أنف وثلاث عيون” المأخوذ عن رواية العملاق إحسان عبدالقدوس، تزور الفنانة ماجدة الطبيب الشهير الذي يؤدي دوره محمود ياسين.

يستمع الطبيب إلى شكواها، يفحصها بيده وبالسماعة، ثم يطمئنها بثقة تامة: “لا يوجد بك أي شيء. سأكتب لك مهدئًا بسيطًا”.

هذا المشهد (عام ١٩٧٢) يبدو اليوم (عام ٢٠٢٥) شديد السذاجة، بل خارج عن الواقع الطبي. فقد تطوّرت وسائل التشخيص والاختبارات المعملية إلى درجة تجعل من غير الممكن لطبيب – مهما بلغت خبرته – أن يعتمد فقط على الفحص اليدوي.

وبفضل الثورة الطبية، التي شملت التشخيصات والأدوية والعلاجات، ارتفع متوسط الأعمار في العالم كله وفي مصر تحديدًا ارتفع من أقل من 50 عامًا في السبعينيات إلى أكثر من 70 عامًا اليوم.

لكن رغم هذا التقدّم، فإن الرعاية الصحية تواجه تحديًا هيكليًا حقيقيًا يتمثل في هجرة الأطباء، فلم تعد المشكلة قصور في أدوات التشخيص، بل في تناقص عدد الكوادر الطبية المؤهلة داخل مصر، مما يهدد استدامة أي تحسن في الخدمات الصحية.

مؤشرات مقلقة

تشير بيانات نقابة الأطباء المصرية إلى أن عدد الأطباء المقيدين في سجلاتها يبلغ حوالي 285 ألف طبيب، لكن العاملين فعليًا داخل مصر لا يتجاوز عددهم 120 ألف طبيب، أي أقل من 40% من الكوادر الطبية المؤهلة.

وبحسب إحصاءات رسمية، فإن معدل الأطباء في مصر هو طبيب واحد لكل ألف مواطن، مقارنةً بـ 4 إلى 5 أطباء لكل ألف في دول أوروبا الغربية.

والأخطر أن هذا الرقم في تناقص مستمر، إذ يُقدّر أن نحو 10 آلاف طبيب يقدّمون سنويًا طلبات للحصول على شهادات خبرة بغرض السفر، ما يعكس تسارع وتيرة هجرة الأطباء إلى الخارج.

غالبًا ما تكون وجهات السفر المفضلة للأطباء المصريين هي دول الخليج وأوروبا وكندا، حيث تتوافر بيئات مهنية مشجعة، ورواتب تتجاوز أضعاف ما يُعرض عليهم داخل مصر. وفي المقابل، يعاني الأطباء في مصر من ضعف الأجور، وضغط العمل المتزايد، وبيئة تنظيمية لا توفر الحد الأدنى من الحماية أو التقدير.

البعض يطرح الحلول التقليدية: زيادة رواتب الأطباء، تحسين ظروف العمل، دعم المستشفيات الحكومية، وهي حلول مهمة ولا يختلف على ضرورتها أحد، لكن يُقابل ذلك سؤال: كيف يمكن للدولة تنفيذ كل هذا وهي تعلن مرارًا عن ضعف الإمكانيات؟!

ربما تحتاج الأولويات إلى مراجعة، ولكن أيضًا هنا تبرز الحاجة إلى حلول مبتكرة ومُهيكلة، مثل:

ـ توجيه جزء من موازنة برامج التأمين الصحي الشامل نحو استبقاء الكفاءات.

ـ تحفيز الأطباء الشباب بعقود مرنة وفرص تدريب حقيقية داخل مصر.

ـ تحسين نظام توزيع الأطباء على المحافظات، بما يقلل التكدس في العاصمة والنقص في الأطراف.

ـ وضع إستراتيجية واضحة لجذب الأطباء الذين سافروا وخاصه أصحاب المهارات النادرة منهم.

وتبقى الحقيقة أن…

أي نظام تأمين صحي، مهما تطوّر، لا ينجح إلا بوجود طبيب كفء بجانب كل مريض. ومهما تطورت الأجهزة والتكنولوجيا، فإن الطبيب هو حجر الزاوية في المنظومة الصحية.

إن أزمة هجرة الأطباء ليست مجرد قضية مهنية، بل مسألة أمن صحي قومي ولا بد ان تُعالج بمنهجية وواقعية.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة