نظرة صقر خلف حجاب الغد

31-5-2025 | 12:31

نحن اليوم، في مصر وحولها، نمر بتحولات مصيرية تهز أركان النظام الدولي القديم، وتهدد استقراره المزعوم.

وفي مثل تلك المراحل التاريخية، مراحل التحول العظمى، تبرز الحاجة إلى رؤى إستراتيجية تعيد ترتيب خرائط الاستشراف السياسي والعسكري، تلك التي تعيد خلالها القوى الإقليمية والعالمية حساباتها وتوازناتها مع الحلفاء والأعداء.

ثمة حالة من الاستطراق والتخلخل تسري فى الأجواء، فما يحدث فى أوكرانيا من صراع شارف على التفكك، والقوات الصينية التي تحوم حول جزيرة تايوان المحاطة بمنظومة دفاع ورصد أمريكية على أحدث طراز، ثم ما حدث ويحدث فى شرقنا الأوسط الغارق حتي أذنيه فى مشاكله الموروثة والطارئة، كلها تتفاعل معاً وتخلق حالة من الاضطراب تربك كافة الحسابات التقليدية للقوي الكبري وباقي الدول. تلك الحالة تقض مضاجع المفكرين والمهمومين بشئون أوطانهم ومستقبل أجيال قادمة لا ندري كيف سيحيون فى واقع ضبابي ومستقبل غائم يثير قلق الباحثين اليوم، ولأجله كتبت الأقلام فى كل مجال تحاول فك شفرة مستقبل مجهول.

هنا أطلت إحدى الدراسات الأكاديمية المهمة، وهي الدراسة الإستراتيجية للدكتور  عماد منسي التي نوقشت في الأكاديمية العسكرية العليا مؤخراً كنفخة بوق توقظ الضمير، أو كشعاع فنار يضيء الطريق نحو الغد؛ في لحظة تاريخية تبجل كل صوت جريء.

دعوة استثنائية
 جاءتني الدعوة من صاحب الدراسة؛ الرجل الذي جمع بين خبرة السلاح ودقة المفكر الباحث.

ذهبتُ ملبياً دعوةً ترتقي إلى مستوى النداء الوطني، وما إن جلست في قاعة المناقشة حتى وجدت نفسي أمام مشهد مهيب نادر: قادة يجلسون جنباً إلى جنب مع خبراء الاقتصاد والسياسة. إنها القوة مجسمة فى مظهريها: العقل والإرادة؛ كأنني أمام جوقة تعزف نغمة الوطنية بهارمونية وإن لم يتكلموا، هي معزوفة صامتة تنبعث من المكان والحاضرين ورمزية التقاء الفكر والقوة.

شعرت في تلك اللحظة بمدى أهمية ما نفعله؛ أن نجلس ونستمع إلى ما يقال، وما أهم وأخطر ما سيقال ويُطرح للنقاش: أزمات مصر والعالم والإقليم؛  أزمة مياه النيل التي تهدد الحياة. معركة التكنولوجيا التي ستحدد مكانة الأمم في الغد القريب. هوية مصر الثقافية. الغزو الرقمي والثقافي. موضوعات كلها ذات أولوية قصوي، وكلها يرتبط بمستقبل أجيال تالية فى مصر والإقليم.

وبرغم امتداد المناقشة لساعات طويلة، لكنها مرت كلمح البصر؛ فالجميع منتبه ومنصت ومهتم، حتى إن التفاعل والتساؤل مس الجميع؛ فتكلموا عن كل تفصيلة، وكأنهم يحفرون في صخر بحثاً عن درر الكلم. من أين تأتي الأرقام؟ وكيف تقاس التحديات؟ وما مصير الفرضيات التي قد تبدو اليوم كخيال علمي؟ الدراسة عميقة، والموضوعات محورية ومصيرية، والحضور جميعهم مملوؤن بالرغبة في المشاركة بما لديهم من معرفة وخوف وتشوف.

هذا لم يكن جمهورًا عاديًا، بل هم شركاء في البناء، يدققون في كل جملة وكأنها لبنة في صرح الوطن.

تذكرت وأنا أسمعهم أيام عبدالناصر حين كانت مصر تصدِّر للعالم أفكارًا تغير الخريطة وتصنع من الواقع المستحيل حقيقة ملموسة.
 
ليس التوقيت وحده هو الذي أعطي لتلك الدراسة كل تلك الأهمية والقوة، توقيت تصاعدت فيه الصراعات الظاهرة والخفية بين العملاقين الأمريكي والصيني، وتحولت إفريقيا إلى ساحة صراع جديدة، وإنما السر في رحابة أفقها واتساع مداها؛ إذ تجاوزت النظرة الضيقة لتعانق السياسة بمعادلاتها الصعبة وحلولها الذكية، وتلامس الاقتصاد بتشابكاته، والثقافة بأبعادها الإنسانية.

الباحث الخبير عماد منسي، بعقلية المؤرخ الذي يقرأ الماضي وبعين الإستراتيجي الذي يرى المستقبل، أعاد لأذهاننا فكرة أن معركة سد النهضة لعبة شطرنج كبرى تمتد من مكاتب الدبلوماسية إلى بورصات العالم، وأن الحرب على الإرهاب لا تخاض بالمدافع فقط بل بإصلاح التعليم وبناء الإنسان الذي يحمل في عقله نور العلم وفي قلبه حب الوطن.
 
هي دعوة عامة إذن
 تلك إذن دعوة فكرية مفتوحة لكل مهتم، وكما كتب طه حسين إن مصر لم تكن يومًا مجرد أرض بل فكرة تسير على قدمين.

اليوم وقد انتقلت ساحات القتال من أرض المعارك إلى فضاءات التكنولوجيا والهويات باتت مصر تعيد طرح سؤالها الوجودي الأزلي: كيف تبقى قلعة منيعة في عالم يذوب فيه الحجر؟ الجواب كما تقول الدراسة ليس في انتظار الغد، بل في صناعته الآن بعقول لا تعرف المستحيل وإرادة ترفض الانكسار.

مصر لا تزال، بموقعها الجيوسياسي الفريد وتاريخها الحضاري العريق، تقف رافعةً رأسها قائمة الظهر راسخة الجذور، في قلب التحولات العالمية والإقليمية التي تشهدها العقود الأخيرة.
 
من وجهة نظري أن الدراسة الإستراتيجية التي قدمها الباحث عماد منسي ليست مجرد عمل أكاديمي، بل هي إعادة تشكيل للوعي الإستراتيجي المصري في زمن تتصارع فيه القوى العظمى على أنقاض نظام عالمي آيل للسقوط.

التوازن القادم من الشرق
 مع سقوط الاتحاد السوفيتي عام 1991، بدا للبعض أن العالم دخل عصر "الهيمنة الأمريكية المطلقة"، لكن التاريخ أثبت خطأ هذا الظن؛ إذ تحولت الأحادية القطبية إلى فوضى خلاقة، استخدمت واشنطن خلالها قوتها العسكرية –كما في العراق 2003– لفرض رؤيتها، إلا أنها فشلت في إدارة ما بعد الغزو، مما خلق فراغًا إستراتيجيًا ملأته قوى صاعدة مثل الصين وروسيا.  

إن مصر تراقب من بعيد، وترى كيف أن النظام الدولي يتحلل من داخله، وينفي عنه ثنائيته القطبية سياسيًا، ليفرض وضعًا جديدًا من "التعددية الانتقامية"، حيث صراع القوى العظمى بين بعضها البعض عن بعد؛ عبر وكلاء، مستخدمة أدوات غير تقليدية كالعقوبات الاقتصادية والحروب السيبرانية والإعلام.

هكذا صعدت قوى جديدة أهما الصين.. فالدراسة تشير إلى أن الصين لم تعد "مصنع العالم" فحسب، بل أصبحت قوة تكنولوجية وعسكرية تهدد هيمنة الدولار.

أما روسيا، فبعد أن كادت تنضوي وتأفل وتتفكك في تسعينيات القرن الماضي، عادت بقوة عبر حروب هجينة في أوكرانيا وسوريا.

وفي هذا السياق، فإن السؤال المصري اليوم: كيف تتعامل دولة ذات ثقل إقليمي مثل مصر مع تحالف غير مقدس بين الصين وروسيا من جهة، والغرب المترنح من جهة أخرى؟  

مصر والتحدي المصيري
عدد من الملفات المحورية يواجه مستقبل مصر وحاضرها ناقشتها الدراسة..

أولها: الأمن المائي، سد النهضة واللعبة الجيوسياسية التي تجري لإضعاف مصر وتقليص دورها. ولا يمكن فصل أزمة سد النهضة عن الصراع الإقليمي والدولي. فإثيوبيا، بدعم خفي من إسرائيل وتراخٍ أمريكي، حولت السدود إلى أسلحة جيوسياسية؛ فمصر تعتمد على النيل بنسبة 97% في مواردها المائية، وقد تواجه خطرًا وجوديًا يتفاقم مع الوقت.

الدراسة تذكرنا بأن الحل ليس تقنيًا فحسب، بل سياسي أيضًا؛ من خلال تعزيز التحالفات الإفريقية، واستخدام الأدوات الاقتصادية والدبلوماسية لتحقيق التوازن.  

قضية ثانية محورية هي قضية الاقتصاد؛ إذ رغم مؤشرات النمو الإيجابية، ما زال اقتصاد مصر يعاني من اختلالات هيكلية؛ فالدين الخارجي الذي تجاوز 165 مليار دولار (حتى 2023) ليس مجرد رقم، بل هو قيد على السيادة الوطنية.

الدراسة تشير إلى ضرورة التحول من اقتصاد يعتمد على الاستيراد والاستهلاك إلى اقتصاد إنتاجي، عبر تصنيع سلع  إستراتيجية كالأدوية والرقائق الإلكترونية.

هنا، نتذكر تجربة الهند التي حولت نفسها من دولة فقيرة إلى عملاق تكنولوجي عبر استثمارات ضخمة في التعليم والبحث العلمي.   

ثم هناك قضية الهوية المصرية؛ فمصر بكل ثرائها الثقافي تحت حصار مزدوج: من داخلها، عبر موجات التطرف الديني التي مزقت النسيج الاجتماعي. ومن خارجها، عبر غزو ثقافي رقمي يروج لنمط حياة استهلاكي.

الدراسة تطرح فكرة "الثورة الثقافية" كضرورة، ليس عبر الشعارات، بل بإعادة بناء الإنسان المصري الذي يجمع بين الانتماء العربي والإفريقي وقدرته على التعامل مع التكنولوجيا دون ذوبان هويته.  

طموح ينتظر التفعيل
 ليست هي الدراسة الأولى ولا الأخيرة، لكنها تأتي فى وقت نحتاج فيه جميعًا لاتخاذ خطوات بناءة فعالة ذات تأثير يدوم ويستمر ويبقي لأجيال تأتي بعدنا..

تقترح الدراسة أن تتبنى مصر ما يمكن أن نسميه: "الدبلوماسية الوقائية"؛ كما لدى بلدان مجاورة تحتاج ليد العون، مثل ليبيا والسودان.

هناك يمكن أن تتحول الأزمات إلى فرصة لمصر لتعزيز دورها كوسيط إقليمي. فالدبلوماسية المصرية مدعوة اليوم لرفع شعار "عدم التدخل"، مع الحفاظ في الوقت ذاته على قدرتها على التأثير، مستفيدةً من شبكة تحالفاتها التاريخية مع دول الخليج، دون الوقوع في فخ التبعية.  

وفيما يخص الصناعة، فالدراسة تدعو إلى تحقيق الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص؛ تأسيًا بتجربة المجمعات الصناعية الكبرى التي نجحت في تصنيع معدات طبية خلال جائحة كورونا.

وأن بإمكان مصر الاستثمار في الطاقة الخضراء؛ لأن مصر، بموقعها الجغرافي، قادرة على أن تصدر الهيدروجين الأخضر لأوروبا، مما يوفر عملة صعبة ويقلل الانبعاثات.  

وأما التعليم؛ فتقول الدراسة: أن أزمة التعليم في مصر ليست في قلة الموارد، بل في غياب الرؤية، وأننا في حاجة لنظام تعليمي يدمج بين:   
- التعليم الفني: كألمانيا؛ حيث 60% من الطلاب يلتحقون بالتعليم المهني.  
- العلوم الإنسانية: لبناء أجيال قادرة على التفكير النقدي، لا الحفظ الآلي.  
مصر 2050.. أسئلة البقاء والريادة  
الدراسة التي منحتها الدكتوراه في "الأكاديمية العسكرية العليا" لجنة علمية مكونة من: الدكتور صفي الدين خربوش، والدكتور علي عوف، والدكتورة دلال محمود، تطرح رؤية جريئة، لكنها تترك أسئلة حرجة: إذ كيف نوفق بين التحالف مع دول الخليج، الممول الرئيسي للاقتصاد، وبين الانفتاح على تكتلات مثل "بريكس"؟ هل يمكن تحويل الزيادة السكانية من عبء إلى ميزة ديموغرافية، كما فعلت الهند؟ ثم كيف نحمي الدلتا من الغرق بسبب التغير المناخي، بينما ننشئ مدنًا ذكية في الصحراء؟  

الإجابة تكمن في الإرادة السياسية التي تجعل من الأزمات فرصًا؛ فمصر، التي صنعت حضارة منذ آلاف السنين، قادرة على كتابة فصل جديد من التاريخ، شرط أن تؤمن بأن المستقبل لا يُنتظر، بل يُصنع بالأيدي والعقول ومن قبلهما الإرادة.
 
[email protected]

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة