«حائط الغراب».. هنا عاش «بُناة الأهرام» وصنعوا أكبر معجزة هندسية في التاريخ| صور

31-5-2025 | 12:40
;حائط الغراب; هنا عاش ;بُناة الأهرام; وصنعوا أكبر معجزة هندسية في التاريخ| صور الجبانة السفلى بحائط الغراب حيث دُفن بناة الأهرام

تعد مدن العمال المصرية القديمة، تجمعات معمارية فريدة، صُممت لإنجاز وظائف محددة تحت إشراف الدولة، غالبًا ما تتكون هذه المدن من مجموعة من المساكن الصغيرة المتجاورة، محاطة بجدار ومٌصممة عادةً وفق مخطط متعامد.

موضوعات مقترحة

وتركز معظم الروايات حول مدن العمال المصرية القديمة على تلك التي أُنشئت في عصر الدولة الحديثة، ويعود ذلك بالأساس إلى الحفاظ الاستثنائي على مدينتي دير المدينة وتل العمارنة، ومع ذلك، تُعد المدن التي يعود تاريخها إلى المملكة القديمة ذات أهمية كبيرة أيضًا.

تنبع أهمية قرى العمال من أنها تكشف لنا تفاصيل الحياة الاقتصادية والاجتماعية للعمال، وتوضح الدور الحيوي للقوى العاملة في الدولة، كان تحديد وظيفة هذه المدن صعبًا دون معرفة الغرض من بنائها والفئات التي استوطنتها، وقد دارت الفرضيات التي طرحها علماء الآثار بهذا الشأن حول غرضين مختلفين ارتبطا بمرحلتين زمنيتين متتابعتين:

* المرحلة الأولى: ارتبطت بمرحلة بناء المجموعة الهرمية وملحقاتها، وفي هذه الحالة، كان الهدف من إقامة المدن الهرمية هو إيواء العمال والحرفيين الذين عملوا في المشروع الملكي، ومن ثم أُقيمت هذه التجمعات السكنية في حياة الملك صاحب المجموعة الهرمية.

* المرحلة الثانية: تتعلق بالخدمة الجنائزية وعمليات حماية المجموعة الهرمية وصيانتها بعد الأنتهاء من البناء، ومن ثم، فمن المحتمل أن تكون هذه التجمعات قد شُيدت بعد اكتمال بناء المجموعة، وبعد وفاة الملك، لإقامة الكهنة وذلك لضمان استمرار إقامة الطقوس والشعائر الدينية بعد وفاة الملك.


مقابر العمال والمشرفين من بناة الأهرام بحائط الغراب

قرية العمال بالجيزة (حائط الغراب)

تُعد قرية "حائط الغراب" دليلًا قاطعًا يدحض الأفكار الخاطئة والشاذة المتعلقة بهوية بناة الأهرامات، وتحديدًا أهرامات الجيزة.

تحتوي هذه القرية على مساكن ومقابر العمال المصريين الذين شاركوا في بناء هذه الأهرامات.

خصصت الدولة قرية "حائط الغراب" لتكون مأوى للعمال وذويهم خلال فترة العمل في بناء الأهرامات، بدأت الحفائر في هذه المنطقة في مطلع عام 1990م، جنوب شرق أبو الهول وخلف الحائط الحجري المعروف باسم "حائط الغراب".

دعت عدة عوامل للبحث في هذه المنطقة، منها وجود هذا الحائط البارز بارتفاع 10 أمتار وامتداد 200 متر، وبه باب في المنتصف يفصل بين مكان إعاشة العمال والجبانة الملكية.

وكشفت الحفائر في إحدى المناطق عن عظام آدمية، وفي منطقة أخرى مجاورة كشفت عن بقايا حبوب من القمح.

تُعتبر قرية حائط الغراب موقع استيطان العمال والإداريين الذين عملوا على بناء أهرامات الجيزة واستقروا فيها حتى الانتهاء من مهمة البناء، ومن خلال دراسة المنطقة الواقعة جنوب الحائط، تبين أنها المنطقة الوحيدة التي تضم مقابر العمال ومساكنهم.


الجبانة العليا لبناة الأهرام بحائط الغراب

موقع القرية ومرافقها

تقع القرية في المنطقة الجنوبية الشرقية لهضبة الجيزة، وتبعد حوالي 400 متر جنوب أبو الهول، وتُحاط بسور حجري يبلغ طوله حوالي 200 متر وعرضه 10 أمتار، يشكل الحدود الشمالية الغربية للمدينة من الناحية الجنوبية والشرقية تحدها قرية نزلة السمان ومنطقة كفر الجبل، ومن الغرب حفائر مقابر العمال بناة الأهرام.

قبل أن يبدأ تجمع العمال لبناء الهرم، كان لا بد من توفير عدد كافٍ من المساكن والمخابز ومصانع الجعة للحفاظ على بقاء القوى العاملة التي تتكون من عشرات الآلاف لفترة زمنية طويلة من العمل. وهذا يعني أنه كان لا بد من إنشاء مدينة لسكن العمال بشكل كامل ومتكامل من ناحية الخدمات.

تم العثور على موقع حائط الغراب بعد الوصول لبقايا العصر المتأخر التي كانت على السطح. كُشف بالمدينة عن أربع مجموعات من الأروقة الرئيسية، وهي تشبه المساكن المؤقتة لإقامة العمال، إلى جانب ما أُطلق عليه اصطلاحًا "المدينة الغربية" و"المدينة الشرقية"، وهما عبارة عن مساكن متكاملة للإقامة العائلية الدائمة، إضافة إلى الكشف عن المبنى الإداري الملكي لتخزين الغلال، والعديد من الأختام الطينية.

في أقصى جنوب شرق الموقع، عُثر على مجموعة من الأفران لتصنيع الخبز، كما عُثر على ما يشبه منطقة صناعية أو منطقة إنتاج كبرى بها الكثير من المخلفات التي تدل على أنها استخدمت كمجمع لإنتاج كميات كبيرة من الغذاء.

احتوى الموقع أيضًا الكثير من بقايا العناصر المرتبطة بالإعاشة، حيث وُجد عدد ضخم من عظام الحيوانات التي كانت تُؤكل، والطيور وعظام الأسماك، إلى جانب الرماد الأسود المحروق الناتج عن طهي الطعام وأواني صنع الطعام، مما يرجح أن هذه الأماكن كانت مخصصة لإعاشة أعداد كبيرة من العمال.

كما عُثر أيضًا على بقايا أوانٍ كانت تُستخدم لتصنيع الخبز بكميات كبيرة جدًا كونها أماكن مركزية لتصنيع كميات هائلة من الخبز يوميًا، وربما كانت هذه أماكن توزيع الخبز والطعام في المدينة السكنية الخاصة بالعاملين في الجبانة.


مقابر للعمال على شكل مصاطب

تجهيزات البناء والإمدادات

كان على العمال أولًا حفر قناة بطول أربعة أميال إلى نهر النيل حتى يتمكن العمال من خلالها نقل الإمدادات من جميع أنحاء مصر مباشرة إلى موقع العمل، ثم حفر وبناء وإنشاء أرصفة لتلقي أطنان الإمدادات اللازمة لمدينة العمال.

كما تم الكشف جنوب هرم منكاورع عن موائد للعمال ومعامل شاسعة لإعداد الطعام وأماكن لتجهيز الأسماك لإمداد العمال بالمؤن اللازمة، وهي عبارة عن قاعات ضيقة طويلة يبلغ عددها حوالي مائة قاعة، تأوي كل منها نحو خمسين عاملًا.

يرى بعض العلماء أن المدينة كانت تسع حوالي أربعة آلاف عامل. لا تزال الثكنات التي خُصصت لعمال بناء أهرامات الجيزة مرئية حتى اليوم.


مقابر للعمال على شكل هرمي

مقابر بناة الأهرام

بذل العلماء والباحثون العديد من الجهود حتى تمكنوا من الكشف عن جبانة عمال بناء الأهرامات. ففي عام 1934م، قام الدكتور سليم حسن بالحفر جنوب السور الضخم الذي يقع أسفل الوادي جنوب شرق الهرم، والذي يبلغ طول الجزء المتبقي منه الآن حوالي 200 متر، وارتفاعه 10 أمتار، ويوجد في المنتصف باب ضخم.

اعتقد البعض أن هذا السور قد بُني ليفصل الميناء عن منطقة الأهرام، ولكن بمرور الوقت تبين أن هذا السور بُني في عهد الملك خوفو، وقد سُمي هذا الجدار باسم "حائط الغراب" لأن الغربان كانت تصطف عليه عند غروب الشمس.

يعتبر هذا السور أقدم وأهم سور في التاريخ، حيث كان العمال يخرجون من الباب الموجود للعبور مع شروق الشمس للعمل في بناء الأهرام ثم العودة في الغروب.

يذكر الدكتور زاهي حواس مكتشف القرية أنه تم العثور على هذه المقابر عن طريق الصدفة، ففي ظهر 14 أغسطس 1990م، عندما سقطت سائحة من فوق جوادها، اصطدم حينها حافره بجدار من الطوب اللبن يقع على تل رملي مرتفع في المنطقة الواقعة جنوب شرق تمثال أبو الهول التي تسمى الجبل القبلي. بدأت أعمال التنقيب في شهر مايو 1991م، واستمرت حتى مارس 1993م، وتقع هذه المقابر على بعد حوالي 2 كم جنوب أبو الهول، و 300 متر جنوب المقابر المسيحية.

في الموسم الأول من تلك الحفائر (1990-1991م)، تم العثور على إحدى عشرة مقبرة كبيرة وحوالي مئة مقبرة صغيرة. كانت المقابر الكبيرة مرتبطة بمقابر صغيرة تقع أمام وحول القبور، وكانت هذه المقابر مستطيلة أو مربعة أو بيضاوية الشكل. لحسن الحظ، كانت هذه المقابر أكثر أمانًا من غيرها، فلم تصل إليها يد اللصوص في الماضي مثل المقابر الأخرى الموجودة بالمنطقة، نظرًا لعدم وجود ذهب أو أشياء ثمينة؛ لأن هذه المقابر كانت لعمال فقراء.

ساعد هذا على اكتشاف هذه المقابر ومميزاتها بدون تشويش، حيث تميزت مقابر هؤلاء العمال بالبساطة الشديدة، فلم يكن لديهم الإمكانيات المادية التي تمكنهم من الاهتمام بالمقبرة والتي كانت في ذلك الوقت تعتبر محل اهتمام كبير من المصري القديم طمعًا في حياة أبدية خالدة، ولم يملكوا الكثير مما يسمح لهم ببناء مقابر قوية تقاوم الزمن كمقابر الملوك الشامخة، وبالتالي لم تُعثر على الكثير من الآثار المادية التي تخبرنا عنهم، بل يمكن القول أنهم تركوا ما هو أصدق وأعظم من ذلك متمثلًا في بقاياهم العظمية وبعض من دفناتهم البسيطة، والتي هي أصدق من أي سجل مكتوب في الأخبار عن مجتمعهم وحياتهم.


رفات العمال

مجتمع الجبانة في عصر الدولة القديمة

غالبًا ما كانوا هم عمال بناة الأهرام، وهم طبقة لا يمكن القول أنها فقيرة معدمة، بل كان لديهم دخل معقول ساعدهم على بناء مقابرهم البسيطة في جبانة تابعة للجبانة الملكية في الدولة القديمة.

وكشفت بعض مقابر العمال عن جودة معقولة، وما كانوا ليستطيعوا ذلك إذا لم يكونوا في بحبوحة من العيش، كما يتضح من بعض مقابرهم. كانوا يعيشون غالبًا تحت رعاية الملك، فكانت الدولة تمدهم باحتياجاتهم اليومية من المأكل والمشرب طيلة مدة عملهم.

تم الكشف عن جبانتين تحتويان على العديد من المقابر، بُنيت معظم هذه المقابر من الطوب اللبن، ودُعمت جدرانها بخامات مختلفة من البقايا التي استُخدمت في بناء الأهرامات والمعابد مثل قطع صغيرة من الجرانيت والحجر الجيري والبازلت والديوريت، فكان العمال يحفظونها ليستخدموها في بناء مقابرهم حتى يمكن حمايتها على مر الزمن تأكيدًا للخلود.


رفات العمال

الجبانة الأولى: الجبانة العلوية

سُميت هذه الجبانة باسم "الجبانة العلوية"، وخصصت للفنانين والرسامين والصناع الذين شاركوا في قطع الأحجار وصناعة التماثيل وبناء المعابد. وهؤلاء كانوا عمالًا عاديين ثم تمت ترقيتهم لدرجة أعلى نظرًا لتفوقهم ونبوغهم في العمارة والفنون.

يتقدم هذه المقبرة طريق صاعد باتجاه الغرب. استخدم هؤلاء العمال البسطاء الطرق الصاعدة للربط بين الجبانتين العليا والسفلى في مقابرهم أسوة بما كان يفعله الملوك في استخدام الطرق الصاعدة التي تربط بين معبدي الوادي والجنائزي بالمجموعة الهرمية في عصر الدولة القديمة. تم اكتشاف ما يقرب من 50 مقبرة في هذه الجبانة، وتتميز هذه المقابر بأنها أكبر حجمًا وأكثر تنظيمًا من مقابر الجبانة السفلى، وكثير منها محفور في الصخر أو بواجهة مبنية من الحجر تغطي الجزء الداخلي المنحوت في الصخر، بينما توجد بعض المقابر الأخرى المبنية من الحجر والطوب اللبن وذات تخطيط مستطيل على شكل المصطبة، وعُثر بداخلها على هياكل عظمية في وضع القرفصاء، وكان العديد من تلك الهياكل العظمية داخل توابيت خشبية بسيطة. يشير حجم وطرز هذه المقابر إلى أنها كانت مخصصة لدفن طبقة متميزة من الفنانين والحرفيين، وتختلف عن أصحاب المقابر في الجبانة السفلى التي كان يبدو من حجمها وطريقة بنائها أن أصحابها من طبقة متواضعة.


رفات العمال

الجبانة الثانية: الجبانة السفلية

سُميت الجبانة السفلية، وهي جبانة ضخمة تقع أسفل الجبانة العلوية مباشرة، خُصصت لعمال نقل الأحجار وهم العمال الذين كانت ترسلهم العائلات الكبيرة في صعيد مصر ودلتاها للعمل في بناء الهرم، وقد دفن فيها فقط الذين ماتوا أثناء العمل. ضم هذا الجزء من الجبانة السفلية حوالي 600 مقبرة صغيرة من الطوب اللبن خاصة بالعمال، ذات أبواب وهمية عبارة عن كتلة مستطيلة من الحجر نُقشت على هيئة باب من ضفتين يتوسطهما هيئة الحصير المجدول من الطوب اللبن. أيضًا دفن أسفلها العامل في وضع القرفصاء الذي يشبه وضع الجنين بحيث تكون الرأس في اتجاه الشمال والوجه إلى الشرق، وهذا الاتجاه ربما يكون مرتبطًا بعبادة الشمس.

في بعض الأحيان، تم العثور على توابيت خشبية مصنوعة من خشب الجميز داخل العمود، وهو خشب مصري محلي رخيص الثمن يناسب الحالة المادية للعمال، وربما كان له غرض ديني يخص عبادة هؤلاء العمال الذين تم دفنهم في هذه المقبرة، حيث عبدوا المعبودة حتحور باعتبارها ربة للجميز.

أما العمال الآخرون فقد دفنوا في قراهم الأصلية بعد أن أدوا واجبهم القومي بالمشاركة في بناء الهرم.

من أهم سمات هذه الجبانة تنوع أشكال القبور بها، فمنها المقابر ذات القباب التي تغطي آبار الدفن الموجودة تحت سطح الأرض، وقد أُطلق على إحدى المقابر المميزة بهذه الجبانة التي اتخذت شكل قبة اسم "Egg-dome" بمعنى قبة على هيئة البيضة، وهي عبارة عن قبة بيضاوية من الطوب اللبن مغطاة من الخارج بطبقة من الملاط استُخدمت فيها الطفلة، ومقابر أخرى أخذت شكلًا يشبه الشكل الهرمي أو تُعد بمثابة صورة مختزلة منه، وربما كانت تمثل التل البدائي، ويبدو أنهم أرادوا الاقتداء بملوكهم. بالإضافة إلى المقابر ذات الشكل الهرمي والشكل المقبب، هناك مقابر تشبه الهرم المدرج، وأخرى على هيئة مصاطب، فضلاً عن ما يقرب من ثلاثين مقبرة كبيرة، ربما تكون خصصت لرؤساء العمال، اتخذت تلك المقابر أشكالًا معمارية مختلفة كالمقابر على شكل هرمي، أو مقابر على شكل القباب المدرجة، ومقابر على شكل خلية النحل، ومقابر ذات السقف الجمالوني، وتبلغ مساحة هذه المقابر ما بين عرض حوالي 0.5 متر (2 قدم ونصف) وطول حوالي 1.8 متر (6 أقدام).

رنا التونسي

باحث دكتوراه فى التاريخ والأثار المصرية القديمة بكلية الآداب جامعة طنطا

رئيس لجنة البحوث والدرسات الآثرية بحملة الدفاع عن الحضارة، نائب رئيس الحملة


د.رنا التونسي

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة