.. وبالشكر تزيد النعم

29-5-2025 | 15:59

في زحمة الحياة وضجيجها، حيث تتسارع الخطوات وتتوالى الأحداث، قد يغفل الكثيرون عن كنز عظيم يمتلكونه، ألا وهو نعمة شكر الله والامتنان له على عطاياه التي لا تُحصى. إنها ليست مجرد كلمات تُقال، بل هي حالة قلبية وسلوك يومي يترجم إدراكنا لقيمة ما نملك، وما وهبنا إياه الخالق من صحة وعافية، وأهل وأحباب، ورزق وفير، ووجود في هذا الكون الفسيح. شكر الله ليس واجبًا دينيًا فحسب، بل هو أساس لعيش حياة ملؤها السعادة الحقيقية والرضا الدائم.

لماذا يجب أن نشكر؟
عندما نتأمل في عظمة الخالق وكرمه اللامحدود، نجد أن حياتنا كلها مبنية على نِعم لا تعد ولا تحصى. من أول نفس نستنشقه في الصباح، إلى نعمة البصر التي تمكننا من رؤية الجمال، والسمع الذي يوصل إلينا الأصوات، واللسان الذي ننطق به ونعبر، والعقل الذي نفكر به وندبر. كل خلية في أجسادنا تعمل بتناغم وإتقان لا يمكن لأي تكنولوجيا بشرية أن تحاكيه. فهل فكرنا يومًا في شكر الله على نعمة ضربات القلب المنتظمة؟ أو على نعمة الجهاز الهضمي الذي يحول الطعام إلى طاقة؟ إنها نِعم غالبًا ما نعتبرها مسلمات، بينما هي في حقيقتها معجزات تحدث في كل لحظة.

لا يقتصر الأمر على النعم الحسية الظاهرة، بل يمتد ليشمل النعم المعنوية الخفية؛ نعمة الإيمان، والطمأنينة، ووجود أشخاص يدعموننا ويحبوننا، وستر الله علينا في الكثير من المواقف، وهدايته لنا إلى الصراط المستقيم. حتى الابتلاءات، وإن بدت مؤلمة في ظاهرها، قد تكون نِعمًا خفية تُكفّر الذنوب، وتُعلي الدرجات، وتُقربنا إلى الله، وتُعلمنا الصبر والقوة. لذا، فإن الشاكر هو من يرى النور حتى في أحلك الظروف، ومن يجد درسًا وعِبرة في كل تجربة يمر بها.

كيف يكون الشكر؟
الشكر ليس مجرد قول "الحمد لله" باللسان، وإن كانت هذه بداية طيبة ومهمة. الشكر الحقيقي هو:
الشكر القلبي: ويتمثل في إدراك النعمة من المُنعم، واستشعار عظمتها، وإقرار القلب بأن كل خير هو من فضل الله وكرمه. هذا الإدراك يولد شعورًا بالحب والخضوع لله، ويمنع القلب من التكبر أو الغرور.

الشكر اللساني: وهو التعبير عن الامتنان بالقول، مثل قول "الحمد لله"، "شكرًا لك يا رب"، "لا إله إلا الله"، "سبحان الله". كما يشمل ذلك الثناء على الله وذكره بصفاته الحسنى، والتحدث بنعمته على النفس أمام الآخرين (دون رياء) ليُقتدى به.

الشكر العملي (بالجوارح): وهذا هو أرقى أنواع الشكر وأعظمها. ويقصد به استخدام النعم فيما يرضي الله. فالعين نشكر الله عليها بغض البصر عن المحرمات، والقدم نشكر الله عليها بالمشي إلى الطاعات، والمال نشكر الله عليه بإنفاقه في سبيل الخير والبر، والصحة نشكر الله عليها باستخدامها في العمل الصالح ومساعدة المحتاجين. العلم نشكر الله عليه بنشره والعمل به بما يفيد الناس. فالشكر العملي هو أن تتحول النعمة إلى وسيلة لزيادة الطاعات والقرب من الله.

آثار الشكر وفضائله
للشكر آثار عظيمة وفضائل لا تُحصى ولا تُعد تعود بالنفع على الشاكر في الدنيا والآخرة:

زيادة النعم: وعد من الله حق، كما جاء في القرآن الكريم: "لَئِن شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ" (إبراهيم: 7). فالشكر يجلب المزيد من الخير والبركة.

الرضا والطمأنينة: الشاكر يكون دائمًا راضيًا بقضاء الله وقدره، فلا يجزع عند المصيبة، ولا يتكبر عند النعمة، مما يمنحه سلامًا نفسيًا وطمأنينة قلبية لا مثيل لها.

القرب من الله: الشاكر هو من عباد الله المقربين، والله يحب الشاكرين. فكلما ازداد شكر العبد، ازداد قربه من خالقه ومولاه.

زوال الهموم والأحزان: عندما يركز الإنسان على ما يملك من نِعم بدلاً من التركيز على ما فقده أو ما ينقصه، تتغير نظرته للحياة، وتتبدد الهموم والأحزان، ويحل محلها الأمل والتفاؤل.

السعادة الداخلية: الشكر يولد شعورًا بالامتنان الذي هو أساس السعادة. فالشخص الممتن أقل عرضة للاكتئاب والقلق، وأكثر قدرة على التكيف مع التحديات.

البركة في الرزق والعمر: الشكر يجلب البركة في كل شيء، في المال، في الصحة، في الأبناء، وحتى في الوقت.
الشكر في القرآن والسنة

لقد أولى الإسلام أهمية كبرى للشكر، فقد ورد ذكره في القرآن الكريم عشرات المرات، وخص الله الشاكرين بالثناء العظيم. يقول تعالى: "وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ"، ونجد الأنبياء والرسل عليهم السلام كانوا دائمًا شاكرين لله في جميع أحوالهم، فهم القدوة لنا في ذلك.

وفي السنة النبوية المطهرة، حثنا الرسول محمد "صلى الله عليه وسلم" على الشكر في كل لحظة، سواء عند النوم أو الاستيقاظ، عند الأكل والشرب، عند رؤية ما يسر أو ما يضر. وكان "صلى الله عليه وسلم" يكثر من الشكر حتى تورمت قدماه، وعندما سألته عائشة رضي الله عنها عن ذلك، قال: "أَفَلَا أَكُونُ عَبْدًا شَكُورًا؟".

خاتمة
فلنجعل من الشكر أسلوب حياة، عادة يومية، وفلسفة نعيش بها. لنبدأ يومنا بالحمد، ولنختمه بالامتنان. لننظر حولنا، لنتأمل في أجسادنا، في عائلاتنا، في أوطاننا، في كل تفصيلة صغيرة وكبيرة. كلما ازداد شكرنا، ازداد إحساسنا بالرضا والسلام الداخلي، وفتحت لنا أبواب الخير والبركة من حيث لا نحتسب. إنها دعوة للوعي، للتأمل، للتقدير، دعوة لنعيش حياة أكثر ثراءً وسعادة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: