ليست حرب الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني في قطاع غزة منفصلة عن مخطط أوسع تنفذه إسرائيل منذ عقود، وإذا كانت بعض التحليلات تذهب إلى أن كل أزمة في المنطقة، تصب نتائجها في مصلحة إسرائيل، فإن الأمر ليس قدريًا، بقدر ما هو مأساوي.
ووسط مشاهد الجوع والألم وغبار الإبادة المتراكم في أعين وضمير العالم، يأتي كتاب "إسرائيل والشرق الأوسط.. تحليل في الصراعات والتاريخ" للدكتور محمد عبدالحميد الزهار، الصادر حديثًا عن مركز الأهرام للترجمة والنشر، والذي يشرح جذور الصراع ومراحله، إلا أنه يحذر في نفس الوقت، من خطوات ونمط معتمد يلاحظه المتتبع للمشروع الاستيطاني الصهيوني منذ البداية.
يبدأ المشروع بالتسلل فالتغلغل فالاحتلال فالضم فالاغتصاب فالتهويد، ويدعو الباحث الزهار إلى التأمل في هذا النموذج الثابت الذي يعتمده المشروع الاستيطاني الصهيوني، واستحضاره دومًا في أذهاننا، لأن أراضي عربية مجاورة لفلسطين مستهدفة صهيونيًا اليوم، بمخططات التسلل التي هي "أولى خطوات هذه العملية".
ويبدو أن التوثيق والتحليل تضافرا في الكتاب، الذي لخص من دون إخلال مراحل الصراع منذ سيطرت بريطانيا على فلسطين بالكامل، في غضون العام 1918، لتمهد وتهيئ الأرض بشكل تدريجي حتى تصبح وطنًا قوميًا لليهود، كما وعد وزير الخارجية البريطاني بلفور في 2 نوفمبر 1917.
ولاحظ صاحب كتاب "الصهيونية من وجهة نظر ضحاياها" المفكر الفلسطيني إدوارد سعيد، أن بلفور وهو في سبيله لشرح وعده بعد أن أطلقه بنحو عامين، أكد أن "القوى الأربع العظمى ملتزمة نحو الصهيونية، سواء كانت مصيبة أم مخطئة، جيدة أم سيئة"، وحتى لو تطلب الأمر "أذية 700 ألف عربي يسكنون الآن تلك الأرض القديمة".
لم يختلف الأمر كثيرًا، ومارست إسرائيل ايذاءً شاملًا لكل عربي وخداعًا لئيمًا بعد أن حصلت على عضوية الأمم المتحدة، بضغوط أمريكية، وبعد إيهام الدول الأعضاء، بأن وفدًا إسرائيليا يتفاوض مع وفد عربي في لوزان، وقد وقع بروتوكول تتخلى إسرائيل بموجبه عن أراضٍ احتلتها خارج قرار التقسيم، وموافقتها على إعادة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم.
وبعد قبول الكيان الصهيوني، كما يفصل الباحث، أعلنت الخارجية الإسرائيلية أن "عودة أي لاجئ إلى مكان إقامته الأصلية مستحيل"، وقال بن جوريون رئيس الحكومة إن "إسرائيل تعد قرار التقسيم غير شرعي وغير موجود".
وهذا برهان جلي على استخفاف الدولة الجديدة بأحكام ميثاق الأمم المتحدة، ويشير الباحث إلى هذا الاستخفاف، بينما إسرائيل الدولة الوحيدة التي قُبلت عضويتها بشرط تنفيذ قرارين أمميين: قرار التقسيم، وإعادة اللاجئين إلى ديارهم.
والاحتيال أو المواجهة للقرارات الأممية استمرا حتى الآن، ليس هذا فحسب، فقد أورد الباحث الزهار مجموعة من التعليقات الإسرائيلية على قرارات الأمم المتحدة، غير مسبوقة في الازدراء والتبجح.
ودائما ما تختار إسرائيل مندوبيها في الأمم المتحدة (19 مندوبًا حتى الآن) من ذوي الألسن السليطة، وعدم الاكتراث بالمقامات الدبلوماسية في المبنى العريق، وليس آخرهم داني دانون، الذي يوزع سبابه على أي أحد يفكر في إدانة إسرائيل على جرائمها، أو يدافع عن منظمة دعم اللاجئين "أونروا".
وأشار الباحث إلى تعليق مندوبهم في الأمم المتحدة بعد صدور قرار سنة 1969 بإدانة العدوان الاسرائيلي على جنوب لبنان بالقول: "مصيره سلة المهملات".
استعرض المؤلف الحروب الخمسة التي خاضتها إسرائيل في المنطقة، وقد ترتب على نتائج الحرب الأولى (سنة 1948) قيام إسرائيل، واتخاذ المشكلة الفلسطينية طابعًا معقدًا لم تنته آثاره بعد، خصوصًا بالنسبة لمسألة الاعتراف بإسرائيل، ومشكلة اللاجئين، وقيام الدولة الفلسطينية. لم يعد هناك تصور عقلاني لإمكانية "إزالة" إسرائيل بالقوة العسكرية، وربما كما يقول الباحث: أدت نهاية أفكار الإزالة، وتعرض الجيوش العربية لانكسارات متتالية، إلى الدفع باتجاه تبلور أفكار التعايش مع إسرائيل لدى الحكومات العربية.
يقدم المؤلف قراءة تحليلية مستفيضة لإستراتيجية إسرائيل في المنطقة، والتي تحمي مصالحها الحيوية، وعلى رأسها إعادة التأكيد على الدولة كملاذ وطني للشعب اليهودي، تطوير الدولة، تأسيس قوة اقتصادية، وتحقيق السلام مع جيرانها، وإقامة تحالفات معهم للحد من العداء الإقليمي تجاه إسرائيل.
بينما في مقدمة إستراتيجية الأمن القومي: ردع الدول الواقعة ضمن المجال الإستراتيجي لإسرائيل عن استخدام قوات وأسلحة تعرض وجود الدولة للخطر.
ويبدو أن المسألة ليست غزة إنما درة التاج "القدس"، وهو ما تكشف عنه انتهاكات الاحتلال اليومية تجاه أهل بيت المقدس من العرب والمسلمين والنصارى، لطردهم.
والقدس عند الباحث كانت ولا تزال واحدة من أعقد القضايا في الصراع العربي-الصهيوني راهنًا ومستقبلًا.
مازالت الأمور غير بعيدة عن حافة الهاوية، هكذا يقر الباحث، بسبب التعنت الإسرائيلي، وبينما يطالب حركة حماس بأن تعيد حساباتها، يتمنى من عقلاء إسرائيل والمعتدلين منهم ـ وهم قلة ـ أن يقودوا تيارًا جديدًا يعترف بالحقوق الفلسطينية المشروعة، ما يؤدي في النهاية إلى ميلاد دولة فلسطينية قد تكون منزوعة السلاح، في الوقت الذي يجب فيه أن يعي الجميع بضروة وجود قيادة فلسطينية موحدة وقوية.