السوداني يفتح قلبه ويكشف الأسرار

27-5-2025 | 15:47

قبل ساعات من الرحيل عن بغداد، دق هاتفي المحمول، وقيل لي إن معالي رئيس الوزراء محمد شياع السوداني يريد أن يراني مع مجموعة محدودة من الكتاب والإعلاميين العرب، وما كان مقدرًا له نصف ساعة امتد لثلاث ساعات، وأول ملاحظة أنه تحدث قليلًا وبثقة، ولم يتذمر من أسئلة محرجة ضاق بها غيره ممن سبق أن التقيت بهم، ولم يتبرم عندما سُئل عن العلاقة مع طهران، والخلاف مع سوريا الشرع، والانتخابات القادمة، وولادة النظام الجديد على ظهر الدبابات، والغيابات في القمة، ونصيحتي له بالعمل في صمت، وأن تعمل العراق ومصر بقوة ليقدما "نموذجًا للتعاون" يجتذب الآخرين بقوة، وتجنب الحروب الباردة العربية.

وافقني السوداني في كل ما قلته وأعاده بنفس الروح تقريبًا، وبذات المنطق، وأكد أن تغيير النظام بقيادة صدام حسين لم يكن ممكنًا سوى عبر القوة الأمريكية، وأن طهران لم تكن تريد مشاركة أمريكا في الإطاحة بصدام، وكان هناك انقسام بين العراقيين، فهناك من رفض مشاركتهم، وهناك من أيد.

وبالنسبة للعرب، فهم من ابتعد عن العراق بدعوى القرب من إيران، وبلُهجة مستريحة قال: "نحن فضلنا أن نكون جسرًا للحوار لا ساحة تصفية حسابات، وعقدنا جلسات ما بين السعودية وإيران، والأردن وطهران، ومصر وإيران، ولم نتورط بعد أحداث السابع من أكتوبر في غزة، والتي كانت فخًا لاصطياد العراق وتدميره من قبل العدو الصهيوني".

حرص السوداني على أن يوضح خصوصية العلاقة مع إيران، فإيران جارة، وهي لا تبعد عن العراق سوى 200 كيلومتر، وبين البلدين قواسم كثيرة، وعشائر مشتركة، وسرعان ما يذكرنا بأن العلاقات لم تكن على الدوام متناغمة، فنحن بيننا قصة حرب امتدت 10 سنوات، وهذه المرارة تجعل كل طرف عراقي أو إيراني حريصًا على عدم الاصطدام.

وفي الوقت نفسه يقول السوداني بصدق: "نحن نتذكر لإيران أنها وقفت معنا في حرب داعش 2014"، وسرعان ما تحول الوجه المبتسم، وظهر وجه صارم معه هدوء الواثق ليقول: "نحن نعرف خصوصيتنا، وننظر لمصالحنا مع الإيرانيين".

وقبل أن يقول كلمته الحاسمة في الموضوع الإيراني صمت، وألقى نظرة فاحصة على الوجه، قبل أن يقول ببطء: "ما أريد أن أوضحه هو أن أهم ما يميز العراقي؛ هو أن لديه اعتزازًا ببلده، وعزة نفس، وكرامة لا تسمح له أن يكون أسيرًا أو تابعًا لأحد".

وبالنسبة للوضع في سوريا، قال: "لا نريد سوى تطبيق الاتفاقيات، ونريد نظامًا يجمع كل مكونات سوريا المتنوعة، والحفاظ على سوريا موحدة مستقرة، وأن تتصدى للإرهاب، ولا نريد مشكلات أمنية من حدودنا معها؛ سواء الدواعش أو الإرهاب".

ورغم كل شيء حافظ الرجل القوي على هدوئه وثقته في النظام الديمقراطي في بلاده، وقال: "لقد سددنا الثغرات التي كان يتسلل منها خصوم العراق، ونجحنا في تحقيق إنجازات على الأرض أعادت الثقة للمواطن".

واعترف بأن من سبقوه ارتكبوا أخطاء، وأن الفساد كان كبيرًا، وأن هناك جهودًا تُبذل لتحقيق نهضة، وأن المواطن يشعر بالثقة.

وعندما داعبته وقلت له: "يُطلقون عليك ملك الجسور"، ابتسم وقال: "المنافسون يقولون ذلك، ولكن حققنا الكثير، وسوف نفوز في الانتخابات المقبلة".

وشرح الرجل أسباب ثقته في أن جبهته الجديدة سوف تفوز، فهو يرى أن أداء الحكومة الجديدة قد حرك اهتمام الشباب، والأجيال الجديدة بأهمية المشاركة في الانتخابات، وقال: "نحن لم ننجز البنية التحتية فقط، ولم يقتصر جهدنا على البناء والتعمير فقط، بل شيّدنا بنية معلوماتية، ونظمنا تعدادًا للعراق لأول مرة منذ عام 1987"، وهو ما كشف عن أن العراقيين وصل تعدادهم الآن إلى 45 مليون نسمة، و60% منهم من الشباب.

والأهم أن الذين سجلوا أسماءهم للتصويت بلغ عددهم 21 مليون نسمة، بعدما كانوا في الانتخابات الماضية 17 مليونًا، ومن بين الـ21 مليونًا، هناك خمسة ملايين نسمة أصوات جديدة، مما يعني أن هناك روحًا جديدة تسري في العراق للمشاركة في الانتخابات.

كشف السوداني عن أنه سيدخل الانتخابات في تحالف مع السيد إياد علاوي، رئيس وزراء العراق الأسبق، وذلك برؤية واضحة، ويحمل إنجازات تحققت على أرض الواقع، وفي ظل مناخ سمته الشفافية والوضوح.

ولعل أهم ما عرضه هو حرصه على التواصل مع الإعلام، وأنه يتفهم ظروف من تغيب من الدول العربية عن قمة بغداد، وأن العراق عاد ليستأنف دوره في قيادة العالم العربي، وأن العراق الجديد لا يقبل أن يكون تابعًا لأحد، سواء إيران أو غيرها.

وأظهر حوار رئيس الوزراء السوداني مع الصحفيين والإعلاميين حرص رجل العراق القوي على أن يكون صريحًا ودقيقًا، وأنهى بلهجة واثقة "العراق قوي ومستقر".

لقد كشف السوداني كم تطور الرجل، وسرعة تحوله من رجل بيروقراطي باهت رأت القوى الكبيرة أنه سوف يملأ الفراغ، وسوف يمرر المرحلة الملتهبة، والرجل الذي جاء به صانعو الملوك، وهو لا يملك سوى مقعدين، فقد تمكن من أن يعيد اختراع نفسه، وتخرج كتلته بوصفها فارس السباق، والآن يقول منافسه الرئيسي: "إن السوداني سوف يحصد 60 صوتًا".

وعلى الأرجح أننا أمام سياسي عربي من الطراز الرفيع، رجل صقلته المسئولية عن بلاده والمنطقة العربية، وعرف أن النجاح في محيطه سوف يبرزه، ويحقق له الشرعية التي تقوي موقفه على الساحتين العربية والدولية.

ولعل حوارنا مع السوداني يجسد المعركة على العراق، وهي معركة تاريخية وستبقى ساخنة، لأهميته الجيوسياسية، وكونه ساحة رئيسة للاستقطاب الإقليمي والدولي.

وهذا التغيير المتسارع في العراق، تغذيه أيضًا سياسات الإدارة الأمريكية الجديدة، من خلال استخدام "العصا والجزرة"، أو سياسة "حافة الهاوية" مع إيران، بهدف تقليص مساحة النفوذ الإيراني إلى أدنى مستوى ممكن.

وفي الوقت نفسه، إن ما يحدث على الساحة السياسية في العراق -وفقًا للعبادي- يعكس حالة تأهب إعلامي وسياسي ونفسي لصد اندفاع القوى الإقليمية التي تسعى للحلول محل إيران، ولو جزئيًا، من خلال أدوات إعلامية وتحالفات انتخابية تكتيكية تستغل حاجة بعض القوى للدعم، وربما للمال السياسي، ولهذا السبب يُفهم تصاعد خطاب بعض الزعامات، ولُهجة بعض القنوات، وحالة الاستنفار الطائفي، وتسريبات حرب الظل، وخطابات التصعيد.

ويبقى أنه في نهاية المطاف، ربما ينجو العراق، وربما ليس هناك يقين بشأن مصير الآخرين، ولكن ما نعرفه بوضوح أن رياح التغيير جاءت مع 7 أكتوبر، وتفجرت الأمور في لبنان، ثم سقط الأسد، وجيء بالشرع، وعقدت واشنطن اتفاقًا مع الحوثي، وتركت تل أبيب خارج الغرفة، وتفاوض طهران الآن رغم اعتراض نتنياهو، وربما يكون كل ذلك أول خطوة في رسم شرق أوسط جديد بحدود أكثر ضبابية، وأحلاف أكثر تقلبًا؛ وترسيخ مبدأ أن الميليشيات يمكن تأهيلها كحزب سياسي، وتجهيز قادة الإرهاب ليصبحوا رجال دولة.

وربما في اللحظة التي تشعر فيها القوى الحالمة أنها أمسكت "بشرق أوسط جديد أو كبير"، بل ربما تفاجأ بأن أحلامها وأوهامها تغوص في رمال الشرق الأوسط، لنبدأ، ويبدأوا، ويبدأ كل شيء من جديد.

ابتسم أنت في الشرق الأوسط.

وفي المقابل يبدو العراق على موعد مع صيف ملتهب، ومستقبل مفتوح على الاحتمالات كافة، وذلك لأنه في مفترق طرق. وهو ليس وحده بل كل الآخرين.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة