لقد أصبح واضحًا لكل ذي بصر وبصيرة، كيف أن العراق بكل أطيافه ومكوناته وشعبه وقيادته، يقف الآن على أرضٍ صلبة، ينطلق من فوقها نحو نهضة كبرى تأخرت كثيرًا، بعد عقودٍ طويلة من المعاناة على المستويات كافة، وقد استطاع البلد العربي العريق أن يستعيد أمجاده كقوة إقليمية ودولية لها اعتبارها وشأنها ودورها المؤثر في محيطه وفي العالم أيضًا.
ولم يكن ليتحقق ذلك لولا الإصرار الجمعي على نفض غبار الماضي والنهوض من جديد وفق معايير بمثابة إشارات مضيئة في الطريق الوعر، فتسامى فوق كل العوائق وتجاوز خلاف الاختلافات والفتن إلى التوافق على كلمة سواء، ومضى على الدرب يبني ويسابق الريح لإعلاء اسم العراق، بأيادي رجال وطنيين ومخلصين يعرفون قدر الوطن، وينكرون ذواتهم في سبيل جعل رايته عالية خفاقة، فحرروا الإنسان العراقي وضمدوا الجراح، والتفت السواعد والأيادي لتدفع بقاطرة هذا الوطن دومًا إلى الإمام ودون رجعة.
من هؤلاء السيد قاسم الأعرجي، مستشار الأمن الوطني العراقي، والذي اجتمعت القوى الشعبية والقوى السياسية بجميع أطيافها مرحبة بكفاءته المشهودة، وقد تولى هذه المهمة الثقيلة بعد نجاحات ومحطات من العمل الأمني، استطاع أن يثبت فيها قدرته على قيادة هذا الملف الخطير، وقد عبر الكثيرون بوصف "الفترة الذهبية"، حينما تولى من قبل منصب وزير الداخلية، وقد حرص الحرص الكبير على إظهار المعدن الأصيل للعراقي الوطني الشريف، المتجرد من براثن الطائفية، والمنحاز إلى هُوية العراق وطن الجميع، الأمر الذي أكسبه احترامًا كبيرًا وتقديرًا لشخصه ومسيرته التي رسخت هذه الكفاءة واللياقة بمثل منصب مستشار الأمن الوطني، الذي تجاوز فيه ـوبدرجة عالية من الخبرة والاحترافية والمعرفةـ المهام التقليدية إلى رحابة الفكر الذي يتناسب وتطلعات وطن يسعى للسمو فوق أنقاض الماضي، والارتقاء ومواجهة جميع التحديات بشجاعة وإقدام وتكاتف، لإثبات الوجود المستحق تاريخيًا وحضاريًا، وحتى بمعطيات الواقع.
ولقد كانت فرصة طيبة إلى حد بعيد، أن التقيت السيد الأعرجي في حوار أُعدُّه كنزًا من خلاصة الخبرة، وترجمة حب الوطن إلى فكر مستنير ودراية بمتطلبات اللحظة، والبناء على أسس متينة من مكونات الدولة بالتاريخ والجعرافيا والطاقات البشرية والموارد، وفهم تلك المتطلبات وأولوياتها في هذا السياق المتطلع إلى آفاق أرحب من القوة والنمو والتقدم، وإثبات الوجود الفاعل والمؤثر، ولعل مسألة الأمن تأتي في مقدمة تلك الأسباب الضرورية والإطار الأشمل لحماية الحلم، وخصوصًا الأمن القومي الذي يرى الأعرجي أنه لم يعد مختزلًا في الجوانب العسكرية أو الأمنية التقليدية، لكن هذا المفهوم لأهميته كقيمة كبرى صار أكثر شمولًا واتساعًا، بمعنى أن الأمن القومي في عراق اليوم يعني الأسس الكبرى لبناء الأوطان: الصحة، والتعليم، والعدالة الاجتماعية، وحماية المواطن من الخوف والجوع والتمييز، مما يعني بالضرورة بناء اقتصاد متماسك، وإدارة موارد الدولة بحكمة.
إن تلك الخبرة فهمت وأدركت أن تحديات المرحلة تتطلب إعادة صياغة الأولويات، اتساقًا مع تحديات الواقع المعيش والمحيط على مستوى العالم وقبل ذلك داخليا، فالتهديدات لم تعد فقط من الحدود فقط، بل إن الفساد والكراهية وغياب الإنصاف جميعها تهديدات قريبة، لذلك فإن إعادة تعريف الأمن القومي ليست ترفًا بل ضرورة في ظل الحاجة الدائمة إلى إستراتيجية وطنية تقوم على حماية الإنسان كقيمة أولى، وعلى صيانة وحدة البلاد كمبدأ فوق كل اعتبار.
وهذه الرؤية بالقطع رؤية وطنية، مرهونة بالوعي الشامل، أي وعي جميع قوى الشعب ومؤسسات الدولة بأسباب التدهور سابقًا، وتجنب المخاطر التي تحول دون تحقيق الحلم في وطن قوي وصلب، وفي القلب من هذه المخاطر مغبة الطائفية، التي يرى الأعرجي، وبثقة كبيرة، أن المجتمع العراقي اليوم أصبح أكثر وعيًا وإدراكًا لمخاطرها، ومع هذا الوعي والتفتح الفكري والتطلعات في وطن حر كريم ومتحضر، فقد الخطاب الطائفي كثيرًا من بريقه وقدرته على التأثير، ولم يعد المواطن العراقي، كما في سالف الأيام، يتفاعل مع التصنيفات الطائفية بقابلية أو سذاجة، بل إن هذه اللغة باتت مرفوضة شعبيًا، ومحطّ استهجان كبير لدى فئات واسعة من الناس، وهذا التحول الإيجابي يشير إلى أمرين في غاية الأهمية، أولهما هذا الاستعداد النفسي لدى المجتمع للتسامي فوق صراع الاختلافات، والأمر الآخر دعم الثقل في ميزان الهُوية العراقية التي تعرضت في الماضي للتحديات الكبرى، ليس فقط بسبب الحروب والصراعات، بل أيضًا نتيجة لتراكمات سياسية أضعفت الشعور بالانتماء الموحد، وها نحن نرى اليوم بوادر أمل واضحة تشير إلى القدرة على استعادة هذه الهوية الوطنية الجامعة، ولقد لمست عن قرب كيف أن الشباب العراقي اليوم، في معظمه، لم يعد يؤمن بخطابات التقسيم، بل يسعى إلى دولة تؤمن بالمساواة وتحتضن الجميع، وهذه معادلة مهمة للغاية في البناء الذي يعتمد في المقام الأول على الإنسان، فالمواطن ـ أيًا كانت طائفته أو قوميته ـ حين يشعر أنه جزء أصيل من هذا الوطن، وأن له حقوقًا متساوية مع غيره، فإنه يصبح شريكًا حقيقيًا في حفظ الأمن، لا مجرد موضوعٍ له، أما إذا شعر بالظلم، أو التمييز، أو التهميش، فستصبح الدولة بالنسبة له خصمًا لا حاضنة، كما أن هذا الشعور بالإيمان والعدالة الاجتماعية والمساوة بين الجميع، هيأ أجواء جديدة وآفاقًا واسعة للاستفادة من فهم تأثير الشعور الجمعي بالهُوية العراقية التي تنطوي على التنوع الثقافي والديني واللُغوي، على مزيد من الإنتاج الإيجابي ثقافيًا وتعليميًا وفنيًا لتكون القوة الناعمة للعراق واحدة من أدوات التأثير الفارقة في مسيرته، ومن المؤكد أنها سوف تنجح وبجدارة لما يملكه هذا البلد من ثراء تاريخي وجغرافي وبشري، في أن تكون عنصرًا حاسمًا في تشكيل صورة العراق عالميًا.
ولا تنفصل ضرورة التماسك الداخلي عن ضرورة استقرار العلاقات الخارجية عبر سياسة متوازنة أساسها الحوار والانفتاح على جميع الأطراف، سواء من دول الجوار أو أبعد من ذلك، ولفهم المشهد العراقي بعد 2003، لابد من استدعاء الصورة كاملة للعراق بحكم موقعه الجغرافي وعمقه التاريخي، وقد كان دائمًا ساحةً لتلاقي –وأحيانًا تصادم– المصالح الإقليمية والدولية، وبعد سقوط النظام السابق، تحوّل العراق إلى مركز جذب لصراعات النفوذ، وهذا لم يكن خيارًا وطنيًا، بل نتيجة لفراغ السلطة وضعف مؤسسات الدولة، المشهد الآن تغير تمامًا، وقد رأينا كيف أن العراق استطاع أن يلعب دور الوسيط في عدد من الملفات الحساسة، منها مثلا التقريب بين السعودية وإيران، فضلا عن تعزيز العمل العربي المشترك، وطرح المبادرات الخلاقة لخفض التوتر في المنطقة، وفي الجوار القريب، سنلحظ مثلا أن العلاقة مع الكويت لها طابع خاص، كجارة قريبة وشريكة إقليمية، والتاريخ بين البلدين لا يمكن محوه على الرغم مما مرّ به من تعقيدات، يحمل في طيّاته إمكانات حقيقية للتقارب، من واقع إيماننا بأن أي اختلاف أو تباين في وجهات النظر يجب أن يُدار عبر الحوار المسئول، لا عبر التصعيد الإعلامي أو الخطابات الانفعالية، وكنت ولا أزال أُلح ـ في جميع اللقاءات مع المسئولين الكويتيين ـ على أهمية تجاوز الحساسيات التاريخية، والانطلاق إلى شراكة مستقبلية قائمة على احترام السيادة وحسن الجوار. وقد لمست استعدادًا مماثلًا لذلك لدى الجانب الكويتي.
وعلى المستوى العربي الأوسع وقضايا المنطقة ربما تفي الإشارة إلى وقائع ومجريات القمة العربية الأخيرة التي استضافها العراق، والتي لم تكن مجرد اجتماع سياسي دوري أو تقليدي، بل كانت إعلانًا واضحًا عن هذه العودة الشامخة والبهية للعراق نحو الاضطلاع بدوره العربي الطبيعي، بعد تحديات داخلية كانت صعبة جدًا، وبعد سنوات من العزلة القسرية.
وها قد أثبت العراق للجميع قدرته على استضافة حدث بهذا الحجم، وسط ظروف أمنية مستقرة ومشهد سياسي فاعل، لتبعث القمة برسالة مفادها أن العراق الذي عانى في الماضي من الصراع، أصبح ساحة مهيأة للحوار، بقدرات لا تُخطئها العين لحكومة وطنية قادرة على تقديم صورة مشرفة لدولة تستعيد عافيتها، وتعيد ترتيب أولوياتها ضمن محيطها العربي، وكان أمرًا ملهمًا ومشجعًا أن لمسنا هذا التجاوب الحقيقي من القادة العرب، والإدراك المتبادل بأن استقرار العراق مصلحة إقليمية مشتركة، وليس شأنًا داخليًا فحسب.
لقد كان حديثًا شجيًا اطلعت خلاله على هذه الرؤية الشاملة الواعية، والمدركة لقيمة الوطن من قلبٍ نابضٍ بالوطنية العارفة المثقفة، في شخص السيد قاسم الأعرجي ذي التجربة الملهمة، التي سافرت مع وطنها في قطار الزمن، ووقفت معه في المحطات المختلفة، والذي بحكم هذه الدراية والخبرة يستشعر أملا في حاضر ومستقبل زاهٍ، لأنه يرى في الشباب العراقي وعيًا جديدًا لم يكن موجودًا قبل سنوات، وأن جيل اليوم لا يقبل أن يُقاد بشعارات الماضي، ولا يرضى أن يعيش في ظل الانقسام والفساد والمحاصصة، بل إنه جيل يريد دولة، لا دويلات، يريد هوية وطنية، لا هويات فرعية متصارعة.