26-5-2025 | 15:31

تمرد القلب مرة أخرى، وأعلن عصيانه على حالة الانتظام التي يسير عليها منذ أن وعى على الدنيا، يبدو وكأنه يريد أن يعيش تجربة جديدة، فلطالما سار على هذا الانتظام جادًّا مجتهدًا، لا يهدأ ولا يكل ولا يمل، فماذا حدث؟ هل كافأه أو شكره أحد؟ لا، بل ربما زادوا عليه الهم والغم والضغوط، وطالبوه ألا يتعب ولا حتى يشتكي! كل جيرانه في هذا الجسد العجيب يمكنهم الراحة من العمل إلا هو! يجب أن يظل طوال الوقت قائمًا بعمله، سائرًا على هذا الدق المنتظم، وإلا ضاع صاحبه. لحظة واحدة يرتاح فيها عن العمل يمكن أن تنهي الحياة. رغم ذلك، لا يقدره أحد أو يفكر يومًا في مكافأته على إخلاصه وتفانيه في عمله.

لكنه بدأ يشعر بالاختناق؛ كل شيء مكرر وممل! ما المانع إذن من خوض تجربة جديدة تخرجه من ذلك الملل؟ لا تخافوا فهو لن يتوقف عن العمل، دعوه فقط يتوقف قليلًا عن هذا الانتظام الممل، يتحرك هنا وهناك على راحته ولو لبعض الوقت. هل هذا كثير بعد العمر الذي قضاه منتظمًا جادًا في خدمتكم؟

قلب مسكين، أراد خوض تجربة يجهلها تمامًا، لا يعلم ما سوف تجره إليه من مجهول ودهاليز لا طاقة ولا قدرة لديه على مواجهتها والخروج منها سالمًا.

شعر هذا الأحمق بالملل والاختناق من انتظامه المتكرر، ولم يعلم أن تجربته الجديدة سوف تهديه ضيق التنفس والاختناق الذي لا قِبَلَ له به. لم يخبره أحد، لو نصحه أحدهم وشرح له الأمر بالتفصيل لأدرك عاقبته وما تمرد على شيء. ها هو الآن يصرخ بأعلى صوته في كل مكان طالبًا النجدة: أنقذوني! لا تحاسبوني! أخطأت، نعم أخطأت دون أن أدري، اعتبروني صغيرًا أخطأ وتعلم من خطئه، أليس ذلك مسموحًا به في عرفكم، بل وترحبون به لصغاركم، اعتبروني أحدهم إذن. أخطأت وتعلمت، لكن أنقذوني بالله عليكم من هذا الألم.

أخبروه أن علاجه لا يتم إلا من خلال الصدمات الكهربية. نظر إليهم وهو لا يعي بدقة ما يسمع، ولما شرحوا له الأمر جرى مسرعًا من المستشفى صارخًا في وجه الطبيب: هل جننت يا رجل؟ هل أنت جاد فيما تقول؟! تضع مكابس الكهرباء على صدري ثم تطلق تلك الشحنات نحو قلبي؟ تقول بمنتهى البساطة إن قلبي سوف يتوقف ثم يعود بعدها لانتظامه المعتاد؟ هكذا سوف أرتاح من ضيق التنفس؟ لا، أشكرك، لا أريد راحتك، ما أدراني أن هذا اللعين بعد أن يتوقف سوف يعود للدق بانتظام مرة أخرى؟ ألا ترى تمرده على كل شيء؟ ألا ترى ما تسبب فيه وما جرني إليه من أهوال؟ اذهب أنت وعلاجك بعيدًا عني.

لكنها أسابيع قليلة، وعاد صاغرًا إلى المستشفى: افعلوا ما شئتم، كهربوا قلبي، اصعقوا هذا اللعين، اجعلوه يتوقف عن الحياة، ولا يهم إذا قرر بعدها العودة أو الرحيل إلى الأبد. صدقوني لا يهمني الآن شيء، طالما أن هذا هو العلاج الوحيد. طمأنوه أن المخدر لن يجعله يشعر بشيء، وسوف يمر الأمر على خير. كان الأطباء يضحكون كلما نظروا إليه وهو يتحدث وعلى وجهه علامات وكأن الموت أمامه على بعد سنتيمترات. هم يقومون بتلك الصدمات كل يوم عشرات المرات، الأمر عادي لا تقلق. لكن إلى من يتحدثون؟ هم في عالم وهو الآن في عالم آخر، ينظر حوله مودعًا كل شيء. ثوانٍ قليلة ويفعل المخدر به الأفاعيل، سوف يغيب عن الوعي وعندما يفيق إما أن يرى أهله أمامه، أو يجد نفسه في القبر وحيدًا لا أنيس له.

وتلقى الصدمات الكهربية ولم تؤت ثمارها، لكنه عندما أفاق اكتشف أنه لم يشعر بشيء مما حدث، أفاق وسط أهله وليس في القبر! كانوا جادين إذن في حديثهم هؤلاء الأطباء! قالوا إنه سوف يتلقى صدمات أخرى في اليوم التالي، ربما أصلحت حاله. لم يعترض تلك المرة، ولماذا يعترض وهو لم يشعر بشيء؟ في اليوم التالي أعادوا له انضباط قلبه وغادر إلى منزله في منتهى الهدوء. لكن بعد شهرين بالتمام والكمال يغضب القلب غضبة شديدة وينسى كل ما مر به ويقرر العودة إلى عدم الانتظام مرة أخرى.

أيها اللعين هل اشتقت إلى الصدمات الكهربية؟ هل استمتعت باللحظات التي قضيتها في البنج طائرًا بأجنحة وردية تنظر إلى هذا العالم العجيب من قمة السماء وكأنك قد نجوت منه إلى الأبد؟ حسنًا، أنت تعلم الطريق إلى المستشفى، هيا لا تتأخر فالوقت ليس في صالحك. وعاد الشقي إلى المستشفى لإجراء الصدمات الكهربية مرة أخرى، ثلاثة أيام متتالية يأتي الأطباء ويقومون بتخديره وإطلاق الشحنات الكهربية على قلبه دون فائدة. لماذا لا تنتظم عليك اللعنة، هل رأيت لقد انقلب السحر على الساحر، ماذا تفعل الآن يا شقي وقد فشلوا في علاجك؟ الصدمات غير مؤثرة وها أنت تدق مثل طبول أغاني المهرجانات التي تخترق سمعنا ونحن لا ندري إلى أين تذهب بنا ولا متى سوف تعود!

أخبرني هل أنت راضٍ الآن؟

فقدت انتظامك وفقدت استجابتك للكهرباء، كل تلك الشحنات التي أطلقوها عليك لم تؤثر فيك! ماذا فعلت بنفسك أيها الأحمق؟ فليذهب كل شيء إلى الجحيم، فليذهب الجميع إلى الجحيم، فلتذهب شطحاتك إلى الجحيم، فكل ذلك أهون مما أوصلتنا إليه. ها أنت تعود متخبطًا في مشيتك، تائهًا في عملك، هل أعجبك عدم الانتظام الذي كنت تبحث عنه؟ هل ارتحت وقد وضعت بصمتك على صدري، أترى كل تلك العلامات المؤلمة التي رسمتها مكابس الكهرباء بسبب حماقتك. ما ذنبي في كل ذلك؟

هل ارتحت الآن وأنت تتقلب تحت تأثير تلك الشحنات الكهربية وكأن سكينًا قد فتك بك فتكًا؟

هل ارتحت وأنا أجلس لا أعي شيئًا ولا أستطيع أن أركز في شيء من حولي؟ وأنا أشعر أن عقلي قد سقط في عش عنكبوت عملاق لا أستطيع النجاة من بين خيوطه، وهو يقترب مني استعدادًا لالتهام هذا العقل وتدميره؟

هل أنت سعيد الآن وقد أخبروك أن مصيرك القادم هو غرفة العمليات ليتم عمل كي لغرفك المهترئة ربما اعتدلت وانتظمت؟

اسمع جيدًا، لا عودة إلى مغامراتك العجيبة، قالها الطبيب صريحة واضحة: لا أريد أن أراك هنا مرة أخرى، أنت تستنفد فرصك المتاحة لدينا بكل مهارة واقتدار.

اِهدأ من فضلك.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: