"سأظل دائمًا بينكم، ولكنني أرغب أن يواصل أبنائي المسيرة، وهم أهل لذلك"، بهذه الكلمات المؤثرة التي تلقاها أفراد عائلة الإبدو جميعًا بالدموع، فاجأنا الأستاذ سلماوي بإعلان قراره بالتخلي عن منصبه.
هذا القرار، الذي لم يكن متوقعًا على الإطلاق، جاء قبل أيام قليلة من احتفاله بعيد ميلاده الخامس والستين. جاء في وقت كان الجميع فيه على يقين تام بأن كفاءته ونجاح تجربته سيضمنان له التجديد، إلا أنه آثر أن يضرب بذلك أروع الأمثلة في الاستغناء والعطاء.
وبالفعل، ترك الأستاذ سلماوي منصبه، لكنه كان دائما موجودًا معنا، بتقديم استشاراته، ومقالاته، وتواجده معنا في كل الأحداث والاحتفاليات والأحزان، كم نحن محظوظون بهذا الأستاذ العظيم والأب الكبير.
فأنا اعتبر نفسي من المحظوظين الذين تتلمذوا في الصحافة على يد الأستاذ الكبير والكاتب المتميز محمد سلماوي.
ويشرفني أن أكون أيضًا ممن حظوا برئاسة تحرير "الأهرام إبدو"، ذلك الصرح الذي أسسه هو بنفسه، وحدد سياسته التحريرية، وهو ما حافظنا عليه جميعًا، واتبعناه من بعده سواء كنا رؤساء تحرير أو زملاء صحفيين. إنه لشرف عظيم أن تخلف صحفي وكاتب وأديب متميز مثل سلماوي.
وأنا أخط هذه الكلمات، يعود بي شريط الذكريات إلى محطات لا تقتصر على تاريخ الأستاذ سلماوي الصحفي، والثقافي، والأدبي؛ ذلك المشوار الذي رسمه وخطاه بكل تميز، وحصل خلاله على جوائز وتكريمات عديدة لا تكفيه حقه، بل أستحضر أيضًا مواقف الأستاذ سلماوي، الأب الروحي لأسرة "الأبدو" بأكملها، وأنا أولهم، والبصمة العميقة التي تركها في مسيرتي الصحفية.
ولن أنسى كلماته ومواقفه المشجعة، شأني في ذلك بالتأكيد مثل كثير من الزملاء، فعند تعييني قال لي: "عادة لا نقوم بتعيين شخص بهذه السرعة، ولكن كفاءتك فرضت علينا ذلك"، ولم أكن الوحيدة التي حظيت بهذه الكلمات التشجيعية، بل كنت ضمن مجموعة من الزملاء الأكفاء الذين سعدوا مثلي بهذه الروح الإيجابية بين الأب وأبنائه.
أما عن مواقفه الشخصية معي، فذاكرتي تحتفظ بالكثير من الذكريات الحافلة والمؤثرة، أتذكر على سبيل المثال موقفًا تعرضت له مع إحدى الزميلات الكبار في مؤسسة الأهرام، ولم يمضِ على وجودي فيها سوى ثلاثة أيام وقتها، رغم أنني كنت على حق رغم صغر سني، وعندما ذهبت الزميلة واشتكتني للأستاذ سلماوي، لم يتردد في استدعائي - وهو الذي لم يكن يعرفني بعد - واستمع لقصتي. فور انتهائي، خاطب الزميلة بكلمات رقيقة تحمل رسالة واضحة، ولن أنسى أبدًا هذه الكلمات التي تعكس مدى عدالة هذا الرجل وإنصافه.
لم تكن تعنيه المجاملات بل كان ينصر الحق، حتى لو كان ذلك لمبتدئة في الجريدة لا يعرفها بعد، وهذا نص كلماته: "أنا آسف، بنتنا ليست مخطئة، ولن أجاملِك على حسابها، بل أنتِ التي أخطأتِ في حقها وفي حق نفسكِ قبلها؛ لأن شأن الكبير أن يحتوي الصغير".
وخلال مسيرتي المهنية تعلمت على يده الإخلاص والتفاني في العمل، والشجاعة في الحصول عن المعلومة وفي الدفاع عن الحق، والأهم من ذلك الإنسانيات التي تعد أهم سمة من سمات نجاح الصحفي والمسئول.
منذ التحاقي بالإبدو، في عام ١٩٩٧، أي بعد ٣ سنوات من تأسيسه، رصدت فيه روح التفرد والتميز في التغطية الصحفية، والأهم من ذلك روح الأسرة الواحدة التي تتشارك في جميع المناسبات حلوها ومرها.
لم يكن الأستاذ سلماوى متدخلا في السياسة التحريرية، بل كان بالعكس سندًا لكل صحفي يشجعه ويسانده في الحق للحصول على أفضل معلومة، وتقديم أحسن تغطية صحفية، وفتح لنا بعلاقاته المتميزة بابًا للوصول إلى كثير من المصادر والحصول على معلومات خاصة ومتفردة.
ثمانون عاما مرت، لكن قلمه لم يجف، وحماسه لم يقل، بل تعددت كتاباته ومؤلفاته ومساهماته الأدبية معبرة عن آراء ومواقف سياسية شجاعة.
وبمناسبة عيد ميلاده الثمانين، حرصت مؤسسة الأهرام البيت الكبير على تكريم الأستاذ سلماوي في احتفالية تليق بالأهرام وبأحد كتابها لم يحالفني الحظ حضورها بسبب تواجدي خارج البلاد. ولكن حرصت أسرة الإبدو على الاحتفال به وسط عائلته الأصغر التي ترعرعت على يده.
حرصنا أيضًا على نشر صفحات خاصة نستعرض جوانب متعددة من حياة الأستاذ سلماوي الحافلة، من كونه مؤسس "الأهرام إبدو" ورائد الفكر، إلى الأب الروحي الذي ترك بصمة لا تُمحى في قلوب وعقول تلامذته وأبنائه.
يضم الملف شهادات حية ومقتطفات من أعماله، ومحطات من مسيرته المهنية الحافلة، وسيرته الذاتية، وأبرز أعماله المسرحية، وحواراته مع الأديب الكبير نجيب محفوظ، ورواياته عن فلسطين التي تعكس مواقفه الثابتة.
هذا بالإضافة إلى صور نادرة تروي قصة رجل جمع بين عمق الفكر ونبل الموقف، وضرب أروع الأمثلة في العطاء
بمناسبة عيد ميلاده الثمانين، كل سنة والأستاذ سلماوي الأب والأستاذ والأديب والكاتب مبدع وقلمه لا يجف.