خليةُ نحلٍ أم شبكةُ عنكبوتٍ؟!

25-5-2025 | 18:28

وما يزال الإنسان في امتحان دائم، لا ينقضي وقته، ولا يفرغ من الإجابة عن أسئلته، وما يكاد ينتهي من سؤال، حتى يلاحقه سؤال آخر، بلا هدنة، بلا راحة، بل ربما، بلا رحمة! 

امتحان يبدأ من لحظة التكليف، وينتهي بتسليم أوراق الإجابة، لله رب العالمين، في لحظة نُصبحُ فيها أثراً بعد عين، حيثُ يُنصَبُ الميزان، ويُنشرُ الديوان.
 
ونتيجة الامتحان عادلة تماماً، لا طعن فيها، ولا استئناف: اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَىٰ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا..

في حياة الناس، وأمام أعينهم، نموذجان لرحلتين، رحلة مع الشرف والكرامة والجمال، وأُخرى مع الغدر والخيانة والقُبح، بيت العنكبوت، وخلية النحل.
 
العنكبوت مَجْمَع كل الرذائل والسلوكيات الوضيعة، وهو في الأساس، حيوان سافل ومخادع، الزوجة تقتل زوجها، بعد التلقيح، والأم تأكل أولادها، إذا لم يفروا بعد الفقس مباشرةً، والأخ يقضي على أخيه، بلا تردد، وأي قادم للبيت من الخارج، يتم التهامه، وذكر العنكبوت، ليلة العرس، يقدم حشرة ملفوفة للأنثى، وكأنها مهرها، لعلها تتخلى عن فكرة الفتك به، ويعد هذا الذكر محظوظاً للغاية، لو عاش بعد التلقيح، دقيقةً واحدة.
 
وبعد كل هذه المجازر، يتم إلقاء كل مغدور، خارج البيت.
 
الغدر، العدوان، التآمر، القتل، وكذلك السرقة واللصوصية، كلها عناوين، لبّيت العنكبوت. 

حيوان فردي، يعيش لنفسه، ولا يأسف على غيره، لا يؤمن بنظرية المجتمعات، ويتبنى منهج العصابات، حيثُ لا قانون، ولا دستور، بل تحطيم لكل النُظم والقواعد!

بيتٌ عجيب، من أسوأ البيوت، بل أسوأ البيوت على اﻹطلاق، ولذا كان الوصف الرائع من الله تعالي، في كتابه العزيز: (وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُون).

قد يكون خيط العنكبوت، أقوى الخيوط، لكنَّ بيته أضعف البيوت، وهو ما أثبته العلم الحديث، وماذا عساه يصنع هذا الخيط القوي، لو كان البيت في مجمله هشاً ضعيفاً؟ تماماً مثلما قد يعيش المرء في رغد من العيش، لكنه يحيا فقير النفس، كسير الوجدان، يسكن القصور، ويحيا حياة القبور، تملأ التعاسة كل ركن من أركان حياته.

لم يدرك الناس مدى الوهن المعنوي لبيت العنكبوت، إلا في العصر الحديث.

سورةٌ كاملة، في القرآن الكريم، باسم هذه الحشرة، سيئة السُمعة، والحديث عنها في آيةٍ واحدة، فيما السورة كلها تتحدث، من أولها لآخرها عن الفتن، فما علاقة الفتن بالعنكبوت؟ والجواب: الفتن متشابكةٌ ومتداخلة وخادعة، كخيوط العنكبوت، فلا يستطيع المرء أن يُميز بينها، وهي كثيرةٌ ومعقدة، لكنَّها رغم ذلك، هشةٌ وضعيفة، فقط إذا استعنتَ باللهِ.
 
وفي المقابل، النحل مخلوق مذهل، هو مَجْمَع للفضائل العظيمة، والسلوكيات الراقية، والأخلاقيات السامية، اجتماعي تعاوني مخلص، كريم يُعطي بسخاء، حياته كلها تضحية وكفاح، في نظام ملكي صارم ودقيق، الطاعة فيه مطلقة، والتعاون منهج حياة، والرُقي أسلوب معيشة، فقد ترى ثلاث نحلات، يتقاسمن الرحيق، بذوق وأدب وإيثار.
 
ولأنها مخلوقات عظيمة نافعة، كرمها الله تعالى، بأرقى أنواع التكريم، فأوحى إليها: (وَأَوْحَىٰ رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ).
 
وسورة كاملة أيضاً في القرآن الكريم، اسمها سورة النحل، أظهر الله تعالى فيها، الجمال والكمال، في هذه المخلوقات المذهلة، وجعلها آيات لا يتأملها إلا المتفكرون المتدبرون، وأثنى على فضلها، في شفاء الناس، بإنتاج أعظم شراب: (يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِّلنَّاسِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ).

في العنكبوت، الدرس المستفاد، حذارِ من الفتنة، فهي قائمة حاضرة، قد تبدو نائمة، ملعون مَنْ أيقظها. 
وفي النحل، الدرس المستفاد، عش لغيرك، ولا تتوقف عن العطاء. 

والعجيب أن القائد في النموذجين، الأنثي، لا الذكر: (وَأَوۡحَىٰ رَبُّكَ إِلَى ٱلنَّحۡلِ أَنِ (ٱتَّخِذِی) مِنَ ٱلۡجِبَالِ بُیُوتًا وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا یَعۡرِشُونَ * ثُمَّ (كُلِی)) الخطاب للأنثى.. كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ (اتَّخَذَتْ) بَيْتًا.. الخطاب للأنثى أيضاً. 

وفيهما إشارة شديدة الوضوح، أنه إذا صلحت الأنثي، صلح المجتمع كله، وإذا فسدت، فسد المجتمع كله.

وفي حياة الأمم والشعوب، بلاد وأشخاص، كالعنكبوت، أينما حلوا، حل الدمار والضياع، وفيها أيضاً بلاد وأشخاص، كالنحل: تأكلُ طيباً، وتضعُ طيباً، وإذا وقعت لم تكسرْ، ولم تُفسِدْ، كما أخبرنا بذلك سيد الخلق، "صلى الله عليه وسلم".
 
وهنا علينا جميعاً أن نختار، كيف ستكون حياتنا، خليةَ نحلٍ، أم شبكةَ عنكبوتٍ؟!

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: