أستعرض في المقال الرابع، المفاهيم الثقافية والنقدية المرتبطة بموضوع الانتحار تتجذر العلاقة بين الأدب (رواية، قصة، شعر، مسرح)، وموضوع الانتحار في اليابان في الرؤية الثقافية والفلسفية للحياة والموت "shisei-kan"، كما نوهنا سابقًا؛ حيث يعتبر الانتحار في بعض الفترات التاريخية كفعل من أفعال الشرف والبطولة، خاصة في ثقافة الساموراي، فالأدب الياباني يتناول الانتحار ليس كفعل محتم، ولكن كخيار جمالي "bitekina-sentaku"، يعبر عن صراعات داخلية عميقة، على سبيل المثال، مثل مفاهيم الزهرة اليابانية المعروفة زهرة "الكرز sakura"، التي تتفتح في فصل الربيع، ثم زوالها سريعًا، تعكس مفاهيم فلسفية يابانية بعدم ثبات الشىء على ما هو عليه، وتعرف باسم "الزوال والعدمية mujo-kan"، مما يخلق ارتباطًا اجتماعيًا بين فكرة الحياة العابرة والانتحار، ومفاهيم فلسفية أخرى، مثل المفهوم الجمالي الفلسفي"mono-no-aware" أي الأحاسيس العميقة للعاطفة والحزن في التعبير، وأيضًا المفهوم الجمالي الفلسفي "وابي wabi" أي الذوق الجمالي الهادئ للأسلوب، وأيضًا المفهوم الجمالي الفلسفي "سابي sabi" أي البساطة الجمالية للأسلوب.
كل هذه الأحاسيس الجمالية نجدها عند الأدباء اليابانيين منذ العصور القديمة حتى العصور الحديثة، وتنعكس في الروايات والقصص اليابانية، والأعمال المسرحية، وخاصة في أشعار "الواكا waka" وأشعار "الهايكو haiku" التقليدية.
كل هذه المفاهيم الفلسفية اليابانية تضفي تعقيدًا فلسفيًا لفعل الانتحار وتبرز الصراع بين الرغبة في البقاء وفقدان الأمل، وعليه فالمفاهيم والتاريخية تلعب دورًا في تشكيل صور الانتحار ضمن النصوص الأدبية، توضح لنا كيف يعكس الأدب الياباني حالات الاضطراب الوجودي والشعور باليأس، وكيف يتم استخدام الأدب كوسيلة لاستكشاف العوامل الداخلية والظروف الاجتماعية للأديب المنتحر.
والجدير بالذكر هنا أيضًا، الرمزية الثقافية للانتحار لا ينظر للانتحار في الأدب الياباني كفعل مادي فقط، بل كرمزية ثقافية للعديد من المواقف الاجتماعية والثقافية في الروايات والنصوص الأدبية، فيُستخدم الانتحار كرمزية للتمرد ضد المجتمع، أو التعبير عن الرفض للضغوط الاجتماعية.
من خلال الانتحار، يعبر العديد من الشخصيات الأدبية والعامة عن عدم قدرتهم على التكيف مع الظروف المجتمعية أو الصراعات الداخلية العميقة، ويشير الباحثون في الأدب الياباني إلى الانتحار كرمزية للبطولة و الشرف والتضحية في زمن ما قبل الحداثة، أي قبل ثورة ميجي 1868، كانت مواضيع الانتحار تأخذ شكلًا أكثر رمزية وتشوقًا، فكانت قصص الساموراي الذين ينفذون سلوك "سيبٌوكو" كرمز للبطولة والشرف، أي في فترة ايدو، وينظرون إليه كرمز للهروب من العار، وتلعب الأديان اليابانية دورًا في تشكيل الرموز الثقافية للانتحار، يُنظر إليه في الفلسفة البوذية كرمز الهروب من المعاناة الدنيوية.
وفي الأدب الياباني المعاصر، ويُصور أيضًا للتعبير عن الرفض الثقافي الدخيل على الثقافة اليابانية التقليدية، كم صورها الأديب "كاواباتا ياسوناري"، فأعتقد أنه ربما انتحر حزنًا على تلوث جوهر الروح اليابانية بالثقافة الغربية، والاحتلال الأمريكي لليابان بعد الحرب العالمية الثانية..
وحزنًا على الصراع بين الروح اليابانية والروح الغربية، كما يُصور الانتحار كرمز للهروب من العزلة والعمل المفرط والقلق النفسي واليأس، في وقتنا المعاصر، وبالتالي التفكير في الانتحار نتيجة عن التجمع الأسري، ومع تزايد استخدام الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي.
وتاكيدًا لما سبق ذكره، تعتبر الرموز المرتبطة بالانتحار في الأدب الياباني ليست مجرد مؤشرات على المأساة، بل تجسد أيضًا عمق فهم الثقافة اليابانية في تلك الفترة لمشاعر الحياة والموت، كانت الفنون الأدبية سواء كانت شعرًا أو نثرًا تحمل دلالات رمزية تُعبر عن المآسي النفسية والاجتماعية. من بين هذه الرموز تعتبر الزهور، وخاصة زهرة الكرز "sakura"، أحد أبرز الرموز التي تمثل الفكر الانتحاري.
ترمز زهرة الكرز، التي تزدهر في فصل الربيع لفترة وجيزة، إلى جمال الحياة الفاني ومعاناتها، مما يعكس الرغبة في الهروب من معاناة الحياة من خلال الانتحار، وتتجلى الرموز الأخرى الدالة على الانتحار في مشاهد المياه، كالنهر أو البحيرة، التي غالبًا ما تمثل التوجه نحو عالم آخر.
فقد استخدمت هذه الصورة في العديد من الأعمال الأدبية لتصوير الفكرة القائلة بأن العبور إلى المياه يمثل نجاة أو موتًا، فالأشخاص الذين يرغبون في إنهاء معاناتهم يعتقدون أن المياه يمكن أن تكون مهدًا يخلصهم من صراعاتهم؛ مثل الأسلحة والأدوات مثل السكين والأدوية تُستخدم بشكل رمزي للإشارة إلى القرار الجذري للانتحار، مما يعكس عمق الألم والفراغ الذي يشعر به المنتحر.
وبالتالي، يمكن القول إن الرموز المرتبطة بالانتحار شكلت جزءًا من النسيج الثقافي الياباني على مر العصور، عاكسة تعقيد المشاعر الإنسانية والإحساس العميق بالفقدان.