في ظلال المرآة: وهم الحضارة وجروح الذات

24-5-2025 | 14:44

لا شيء يضاهي بهجة اللحظة التي يخرج فيها كتاب مترجم إلى النور، كأنه جسر جديد يمد بين ضفتين بعيدتين. اليوم، وأنا أمسك بالترجمة العربية لكتاب "التاريخ الإجرامي للجنس البشري" لكولن ويلسون، التي أنجزها الدكتور رفعت السيد ببراعة المترجم العالمي وحساسية الفيلسوف، أشعر وكأنني أستقبل ضيفًا عزيزًا طال انتظاره.

هذه الترجمة ليست مجرد نقل للنص، بل هي إحياء لحوار تأخرنا عنه طويلًا، حوار مع أنفسنا قبل أي شيء.  

وما أجمله من لقاء أن يصدر هذا العمل عن المركز القومي للترجمة، ذلك الصرح الذي ظل لسنوات حارسًا أمينًا للفكر الإنساني، يُدخِل إلى مكتبتنا العربية كنوزًا من المعرفة كانت ستظل حبيسة اللغات الأخرى.

أتذكر هنا كلمات الراحلين العظيمين شوقي جلال وأحمد مستجير، اللذين كانا يؤكدان دائمًا أن الترجمة الحقيقية ليست نقل كلمات، بل نقل وعي. فهي تدخل إلى ثقافتنا دماءً جديدة، تحرك المياه الراكدة في عقولنا، وتجبرنا على مواجهة أسئلة كنا نتهرب منها.  


لقد اختار الدكتور رفعت السيد هذا الكتاب بعين المفكر الذي يعرف أن مجتمعاتنا العربية في أمس الحاجة إلى مرآة صادقة تريها وجهها دون زيف. فويلسون لا يكتب ليريحنا، بل ليزعزع اليقين، وليذكرنا بأن الشر ليس شيئًا بعيدًا عنا، بل هو إمكانية كامنة في كل إنسان. وهنا تكمن عبقرية المترجم: في اختياره لنص لا يقرأ للمتعة، بل للهزة الداخلية التي تلي القراءة.  

فشكرًا للمركز القومي للترجمة، الذي يواصل إضاءة شموع المعرفة في زمن يحاول الكثيرون إطفاءها.

وشكرًا للدكتور رفعت السيد، الذي منحنا نصًا مترجمًا لا يقل قوة عن الأصل، بل ربما يضيف إليه عمقًا جديدًا بفضل حساسيته الثقافية الفريدة. \

فليبدأ الحوار...
كتب "كولن ويلسون" كتابه ليكسر المرآة، لا ليصلحها. فكل ما نراه في تاريخنا البشري المشرق هو انعكاس لأوهامنا، وكل ما نخفيه خلف سطور الكتب هو الحقيقة المعتمة التي تتحشر في زوايا الروح. "التاريخ الإجرامي للجنس البشري" ليس كتابًا، بل هو جرس إنذار يدق في ليل النفوس التي أغلقت أبوابها على أسئلة لا تجرؤ على مواجهتها.  

كأننا نقرأ لنبني جدارًا من الورق بيننا وبين الحقيقة. يذكرنا ويلسون بأن الحضارة التي نتباهى بها هي في الواقع "قناع ذهبي لوجوه متوحشة". العربي المثقف، خاصة، يعيش في مأزق مزدوج: يقرأ الكتب كما يلتحف بالبطانية في ليلة شتوية، لكنه يخشى أن تتحول الصفحات إلى سكاكين تخز قلب الوهم الذي يعيش عليه. هل نقرأ لنهرب أم لنتحرر؟ هذا هو السؤال الذي يلقيه رفعت السيد في وجهنا، كما يلقي الطفل بحجر في بركة ساكنة.  
 
الطغاة الذين يسكنوننا!
حين يقول ويلسون: "الطغاة هم بشر لم يقرأوا أنفسهم قط"، فإنه يضع إصبعه على الجرح العربي العتيق. نحن أمة تعودت أن ترى الشر في "الآخر" دائمًا: في الاستعمار، في الصهيونية، في المؤامرة... لكن الحقيقة المرة هي أن الوحش ينام في مزارعنا الداخلية. الفصل بين البطل والجلاد رفيع مثل خيط العنكبوت، وأحيانًا... نخيطه بأيدينا لنختبئ خلفه.  

ما فعله الدكتور رفعت السيد في ترجمة هذا الكتاب ليس نقلًا لحروف، بل إحياء لوعي. هو يعلم أن بعض الكتب تحمل سمًا يجب تنبيه القارئ إليه قبل شربه. الترجمة هنا ليست جسرًا بين لغتين، بل بين عالمين: عالم الوهم الذي نختلقه لننعم بالسكينة، وعالم الحقيقة الذي يضطرنا إلى المواجهة. وكأن المترجم يهمس: "هذه هي أحشاؤك المكشوفة تحت مصباح العلم، فهل تجرؤ على النظر؟".  
 
أرشيف الذاكرة المنسية
لولا أمراء الثقافة الخفيون – مثل الدكتورة كرمة سامي مديرة المركز القومي للترجمة – لصرنا أمة بذاكرة. إنها تفعل ما يفعله المنقبون عن الآثار: تحفر في تراب النسيان لتبارك العظمات البشرية. الكتاب المنسي هو جرح في جسد الأمة، وإحياؤه هو خياطته. هناك من يرى في الثقافة ترفًا، أما هي فتراها سلاحًا لمقاتلة الجهل المقنع بثياب الحضارة.  

ليس هناك أكثر إيلامًا من الحقيقة، وليس هناك أجمل منها. الكتاب هذا يجبرنا أن نخلع أقنعتنا، لكنه يعدنا بشيء وحيد: أن نرى وجوهنا الحقيقية قبل أن يفعل الزمن ذلك. المعركة ليست مع التاريخ، بل مع أنفسنا. فإما أن نقرأ كما نمشي على حبل فوق هوة، وإما أن نغمض أعيننا ونتوهم أننا في ساحة أطفال.  

الخيار كما يقول ويلسون ليس بين الحب والكره، بل بين المعرفة والجهل. والثقافة الحقيقية هي التي تجعلنا نفضل ألم الحقيقة على سكر الوهم.  
 
تشريح الوهم وصرخة الوعي  
في أعماق هذا النص، الذي يشبه غابة من الرموز تتلاطم أفرعها كأمواج عاتية، يكمن سجال وجودي بين الحقيقة والوهم، بين الجرأة على المواجهة والهروب إلى أحضان السلوى. لن نفهم دلالات هذا النص إلا إذا اقتحمنا أسئلته الكبرى، وهي تتناثر كشظايا مرآة مكسورة:  
الملاحظ أن النص يضع المثقف العربي على محك قاس: أتكون القراءة فعل مقاومة أم فعل استسلام؟ لقد تحولت المكتبات إلى "مقابر فخمة" لأسئلة لا نجرؤ على فتح نوافذها. فالكتاب -حسب ويلسون- ليس ملجأً، بل مفتاحًا لزنزانة الذات. هذا يذكرنا بمقولة "إدوارد سعيد" عن المعرفة كأداة قوة؛ فالمثقف الحقيقي ليس من يقرأ ليؤكد أفكاره، بل من يقرأ ليهدم أوهامه.  

عندما يشبه النص الحضارة بـ"قناع ذهبي لوجوه متوحشة"، فإنه ينقب عن جذور الشر في التاريخ البشري. لكن الأكثر إثارة هو ربط الشر بالذكاء؛ فالعقل البشري قادر على اختراع الأدوية والأسلحة بنفس القوة. هذه الفكرة تتقاطع مع نظرية "كارل يونغ" عن الظل؛ فكلما ازداد الإنسان تحضرًا، ازداد ظله عتمة. فالمشكلة ليست في الشر نفسه، بل في إنكارنا لوجوده.  
 
لماذا تجرحنا الترجمة؟  
دور "رفعت السيد" في هذا السياق ليس ناقلًا للكلمات، بل حاملًا للسلاح الفكري. الترجمة هنا هي اختراق لحدود اللغة والثقافة؛ فالنص المترجم يصبح مرآة مزدوجة الوجهات: تري العرب أوهامهم بما فيهم من توحش مكبوت، وتري الغرب أن "التاريخ الإجرامي" ليس مجرد سرد، بل سؤال عن جوهر الإنسان. هذا يذكر بجهد "محمد عناني" في ترجمة نيتشه إلى العربية، حيث كانت الترجمة عملية تأويل ثوري.  

يطرح النص مفارقة مرعبة: كلما ازددنا ثقافة، ازددنا إدراكًا بقدرتنا على العنف. فالفعل الثقافي الحقيقي –حسب ويلسون– هو الذي يجبرنا على مراجعة أدواتنا: هل نستخدم المعرفة لبناء جدران أم لهدمها؟ هذه المفارقة تتجلى في التجربة اليابانية: شعب قادر على صنع أجمل الشعر وأفظع الأسلحة في آن.  

لا يبقى لنا - بعد هذا التحليل - إلا أن نعترف: النص هو صرخة في وجه كل من يظن أن الثقافة وسيلة للتسلية. هو يذكرنا بأن الكلمات قادرة أن تكون أقوى من السيوف، وأن القراءة الحقيقية هي انتحار موضوعي للأنا. فالمثقف -حسب هذا المنطق- ليس من يملك الإجابات، بل من يصر على تكسير الأسئلة.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: