أزمة الإيجارات القديمة: بين الحقوق والمصلحة العامة

24-5-2025 | 12:52

في قصة "الخندق" من مجموعة "التنظيم السري" لنجيب محفوظ (1984)، يدور حوار لافت بين موظف مسن يسكن عقارًا قديمًا متهالكًا، ومالك العقار.

بعد تسلمه الإيجار، يقول المالك: "أقل من ثمن كيلو لحمة، والاسم مالك بيت"، فيرد الساكن: "مظلومان يتناطحان، ولكن ما الحيلة؟" يرد المالك: "لولا احتلالكم له لبعته بالشيء الفلاني، ثم إنه آيل للسقوط، ألم تُنذِركم اللجنة؟"، يُجيب الساكن: "وهل نُلقي بأنفسنا في الشارع؟".

مع افتقاده للأمان، وفي سعيه لمأوى بديل، يزور مدفن العائلة؛ حيث توجد حجرة الرحمة ودورة مياه، لكنه يفاجأ بأنها صارت خلية نحل تموج بالأطفال والنساء والأثاث البالي، وتعبق برائحة "التقلية"، رَمَقَهُ المستوطنون بتوجس وتحدٍ، لكنه قال بتسليم: "لا بأس، ولكن ماذا لو احتجت الحجرة كمأوى؟"، ضحكت إحدى السيدات وقالت: "أنت صاحب حق، ونحن ضيوفك. ننزل لك عن ركن، والناس للناس." فتظاهر بالامتنان وشكرها.

ليست أزمة الإيجارات القديمة في مصر مجرد خلاف بين مالك ومستأجر، بل هي تعكس تشوهات تاريخية في العلاقة بين العدالة الاجتماعية وحقوق الملكية. ومع كل مقترح حكومي، يتجدد السؤال: كيف نضمن ألا يتحول رفع الظلم عن طرف إلى ظلم جديد لطرف آخر؟

من المعروف أن الإيجارات القديمة، الخاضعة لقوانين الستينيات، لم تُحدَّث منذ عقود، مما أدى إلى فجوة صارخة بين القيمة السوقية للوحدات السكنية وقيمة الإيجار الفعلي. في المقابل، يتمسك المستأجرون – خصوصًا كبار السن وأصحاب المعاشات – بحقهم في مساكن استقروا فيها لعقود، ويرددون: "لو خرجنا، إلى أين نذهب؟".

في قلب هذا المأزق، يبرز خطر اتخاذ قرارات متسرعة، مثل المقترح المتداول حاليًا في مجلس النواب بمنح المالك الحق في إنهاء العلاقة الإيجارية بعد خمس سنوات. هذا المقترح قد يؤدي إلى خروج فعلي لفئات ضعيفة، ويخلق أزمة اجتماعية عاتية.

من هنا تأتي الحاجة إلى خطوة أولى لا غنى عنها: إنشاء قاعدة بيانات دقيقة وشاملة.

قد يستغرق إعداد هذه القاعدة عامًا أو أكثر، لكنه استثمار حقيقي في الشفافية، فما لا يُقاس لا يمكن إصلاحه، وينبغي أن تتضمن القاعدة البيانات التالية:

التمييز بين السكن الوحيد والسكن الإضافي: لا يُعقل مساواة من لا يملك سوى مسكنه بمن يورّث الشقق لأبنائه، بينما يقيم في فيلا أو شقة تمليك حديثة.

التمييز بين الجيل الأول والمستفيدين بالوراثة: لا بد من تقييم الوضع القانوني والإنساني لكل فئة، علمًا بأن التوريث مسموح به لجيل واحد فقط حسب القانون.

دراسة الحالة الاقتصادية للملاك والمستأجرين: بعض الملاك يعيشون في أوضاع مزرية، رغم امتلاكهم لعقارات ذات قيمة سوقية عالية، بينما ينعم بعض المستأجرين برفاهية مدعومة قانونيًا.

توثيق من دفع "خلو رجل": رغم عدم قانونيته، إلا أنه كان جزءًا من الواقع الاقتصادي والاجتماعي لعقود، ويجب أخذه بعين الاعتبار إنصافًا للطرفين.

التمييز الجغرافي والسعري: لا يمكن مساواة شقة في بولاق بشقة تطل على النيل في الزمالك، أو عقار تتم صيانته من قِبَل المالك بآخر يتحمل المستأجرون مسئولية صيانته.

بعد بناء هذه القاعدة، يمكن للدولة أن تطلق حزمة حلول تدريجية ومتنوعة تراعي العدالة لكل فئة، تشمل:

تحريرًا جزئيًا مشروطًا بالحالة الاجتماعية.

برامج دعم سكني للمستأجرين المستحقين.

إعفاءات ضريبية للملاك الذين يلتزمون بإيجار اجتماعي منضبط.

تمكين أجهزة الدولة من التدخل في الحالات الإنسانية.

الخلاصة

الملف شائك، لكنه ليس مستحيلاً. لا بد كخطوة أولى من الاستعانة بالبيانات الدقيقة، ولا بد من التمييز بين الحالات المختلفة، فالتعميم الجاف والقرارات السريعة لن تحقق العدالة المنشودة، فالسكن ليس فقط حقًا، بل أيضًا مسئولية مشتركة بين المواطن والمجتمع والدولة.

كلمات البحث
هجرة الأطباء: أزمة تتطلب حلاً ممنهجًا

في أحد مشاهد فيلم أنف وثلاث عيون المأخوذ عن رواية العملاق إحسان عبدالقدوس، تزور الفنانة ماجدة الطبيب الشهير الذي يؤدي دوره محمود ياسين.

الأكثر قراءة