عندما تُذكر مدينة برشلونة اليوم، يتبادر إلى الذهن ناديها الرياضي الشهير أو معالمها السياحية الحديثة، لكن قلَّ من يتذكر أن هذه المدينة العريقة كانت يومًا ما حصنًا من حصون الإسلام، وثغرًا شامخًا في أقصى شمال شرق الأندلس، حيث رفع المسلمون راية التوحيد، ورسخوا قواعد الحضارة والعلم والفروسية.
موضوعات مقترحة
جغرافية برشلونة
مدينة برشلونة هي مَدينةٌ إسبانية ذات موقع استراتيجي تقع في الشمال الشرقي من إسبانيا، وهي عاصمة مُقاطعة كاتالونيا التي تتمتّع بحُكمٍ ذاتي. تُعدّ برشلونة ثاني أكبر مدينة في إسبانيا من حيث عدد السكّان، بعد العاصمة مدريد، وهي سادس أكثر مُدن الاتحاد الأوروبي اكتظاظاً بالسكان. تطلّ سواحل مدينة برشلونة الغربية على البحر الأبيض المتوسط؛ ممّا يجعل شواطئها مكاناً مُفضلاً لاستقطاب السيّاح من حول العالم للتمتّع برمالها ومُناخها.
وقد صُنَّفت برشلونة كرابع أذكى مَدينة في أوروبا، وخامس أفضل مدينة في العالم من حيث جودة الحياة، وعادةً ما يرتبط اسمها برياضة كرة القدم، وذلك بسبب نادي برشلونة لكرة القدم الذي يُعدّ ثاني أكبر نادٍ في العالم، ويحصد مُشجّعين من جميع أنحاء العالم.
التاريخ الإسلامي لمدينة برشلونة
في مطلع القرن الثامن الميلادي، وبعد أن فتح المسلمون أغلب أراضي الأندلس، اتجهت جيوشهم شرقًا نحو برشلونة، تلك المدينة التي كانت تُعد بوابة الأندلس من ناحية جبال البرانس، حيث فتحها القائدان المسلمان موسى بن نصير وطارق بن زياد عام 95هـ /714م إثر إتمامها لفتح الأندلس وضم إسبانيا لخارطة الدولة الأموية في دمشق، وقيل بل فٌتحت على يد القائد الإسلامي "عبد الرحمن الغافقي" عام98هـ/ 717م، بعد سلسلة من المعارك البطولية التي أظهرت براعة المسلمين في القتال والاستراتيجية.
ظلت برشلونة تحت الحكم الإسلامي قرابة 90 عامًا، كانت فيها مركزًا عسكريًا وعلميًا مهمًا، حيث استقر فيها فرسان من العرب والبربر وموالي المسلمين، يدافعون عن الثغور ويُعلمون أهلها فنون الحرب والسلام.
برشلونة في عيون المؤرخين المسلمين
وصفها المؤرخ "المقري التلمساني" في كتابه الشهير "نفح الطيب من غصن الأندلس الرطيب" بأنها كانت إحدى القواعد الإسلامية التي أرهبت أعداء الإسلام، حيث توغلت جيوش المسلمين منها إلى ما وراء جبال البرانس، حتى وصلت إلى قلب أوروبا، فييقول: "وانقرضت أمم القوط، وأرز الجلالقة ومن بقي من أمم العجم إلى جبال قشتالة وأربونة وأفواه الدروب فتحصنوا بها، وأجازت عساكر المسلمين ما وراء برشلونة من دروب الجزيرة حتى احتلوا البسائط وراءها، وتوغلوا في بلاد الفرنجة."
لقد كانت برشلونة شاهدًا على عظمة الدولة الإسلامية في الأندلس، حيث امتزجت فيها الثقافات، وازدهرت التجارة والعمران، وانتشر العلم بين أهلها.
سقوط برشلونة.. ونهاية حقبة مجيدة
نظر المسلمون إلى برشلونة باعتبارها قاعدة عسكرية للانطلاق في حملاتهم العسكرية في فرنسا، فظلت في أيديهم باسمها الحالي ما يقرب من 90 عاما، وكانوا يسمون الإقليم بـ "قطالونية"، ولم يحاولوا أن يثيروا حفيظة "الكاتالونيين"، بل على العكس توسعوا فى عمليات الزواج والمصاهرة فى محاولة الاندماج مع هذا الشعب المتمرد المعتز بقوميته، وكان العرب يُطلق على الكاتالونيين اسم قبائل "البشكنش".
وما إن سقطت الدولة الأموية في الشرق الإسلامي حتى نجح أحد أبنائها وهو عبد الرحمن الداخل المعروف بـ"صقر قريش" فى تأسيس دولة عربية في إسبانيا، كانت برشلونة أحد ولاياتها، ولكن واليه على برشلونة سليمان بن الأعرابي قد أعلن العصيان، واستدعى ملك فرنسا شارلمان لغزو الأندلس متعهدا بفتح برشلونة أمام قواته لغزو الأندلس، وفى سبيله للحصول على بركة البابا وتكوين الإمبراطورية الرومانية المقدسة وافق شارلمان على تلك الحملة لطرد المسلمين من أوروبا، فأقبل عليه بجيوشه الجرارة.
وأثناء عبوره جبال ألبرت "البرانس" توسع شارلمان في قتل "الكاتلونيين" وأثار حفيظة الانتقام لديهم، وما أن أقبل على برشلونة حتى تراجع ابن الأعرابى عن وعودة وأغلق الأبواب دون قوات شارلمان، لكن الملك الفرنسي تمكن من أسره في نهاية المطاف دون دخول المدينة، ومع طول الحصار أعلنت القبائل السكسونية فى ألمانيا تمردها على شارلمان، ما اضطره إلى مغادرة برشلونة، وأثناء عبوره لجبال ألبرت تحالف أبناء الأعرابي مع الكاتالونيين الموتورين من شارلمان وأغاروا على مؤخرة جيشه وهزموه شر هزيمة، وتمكنوا من استرجاع الوالي سليمان، وكان يقود قوات شارلمان ابن أخته "رولان" الذي قُتل كي يحمى سائر الجيش من القتل والأسر .
رُقى "رولان" إثر موقعة برشلونة تلك إلى مراتب القديسين، وصيغت باسمه أول ملحمة شعرية أوروبية في القرون الوسطى عُرفن بـ "أنشودة رولان" ، وظلت تلك الأنشودة عالقة فى أذهان الأوروبيين زمنا طويلا، حتى أن القوات الصليبية كانت ترددها أثناء هجومهم على الشرق في الحروب الصليبية.
ما فشل فيه شارلمان نجح فيه ابنه لويس التقي / الورع فانتزع برشلونة من المسلمين عام185هـ/ 801م في إحدى فترات الضعف التي انتابت الإمارة الأموية في الأندلس، ومنذ ذلك الحين احتضنت برشلونة إحدى الممالك الإسبانية الداعية لاسترداد الأندلس من المسلمين وهى مملكة "أراجون"، ورغم المحاولات المستميتة للمسلمين لاسترجاع برشلونة إلا أنها لم تعد تحت راية الخلافة الأموية في الأندلس سوى لفترة يسيرة إثر أحد الحملات التي قام بها الحاجب المنصور بن أبى عامر 393هـ .
وأمر الحاجب المسلمين بألا ينهبوا المدينة أو يدمروا كنائسها، ورغبتهم في سكن برشلونة مرة أخرى بدفع دينارين شهريا لكل من يريد البقاء ، حيث كان يعتبر برشلونة أحد حدود الدولة المواجهة للأعداء، ولكن الأمر لم يدم أكثر من عدة أشهر، وعاد الأسبان لاحتلالها بعد وفاة المنصور.
قامت مملكة أراجون الأسبانية التي اتخذت من برشلونة عاصمة لها بدور كبير في الحرب على المسلمين، حيث استعادت المدن الكبرى في شرق الأندلس مثل سرقسطة وفالنسيا ومرسية لاسيما في عهد الملك الأراجونى "الفونسو المحارب"، وظلت تلك المملكة على نزعتها الاستقلالية عن سائر ممالك إسبانيا مثل قشتالة وجليقية ، بغية القضاء على الوجود الإسلامي في غرناطة، آخر معاقل المسلمين في الأندلس، تزوج ملك أراجون فرناندو الثالث من ملكة قشتالة إيزابيلا الكاثوليكية لتسقط الأندلس أخيرا من أيدي المسلمين عام 897هـ/ 1492م .
إن تاريخ برشلونة الإسلامي جزء لا يتجزأ من تراث الأندلس العريق، وهو شاهد على أن هذه الأرض كانت يومًا ما تنعم بحضارة إسلامية عظيمة، فليست برشلونة مجرد مدينة كروية أو سياحية، بل هي صفحة من صفحات المجد الإسلامي التي يجب أن تُروى للأجيال القادمة، "لقد استمر الحكم الإسلامي لبرشلونة 90 سنة، لكن بصماتها الأندلسية باقية في ذاكرة التاريخ حتى يومنا هذا".
د. سليمان عباس البياضي
عضو اتحاد المؤرخين العرب
عضو الجمعية المصرية للدراسات التاريخية