ببن الحبكة الدرامية والحقيقة التاريخية.. متى يتمسك كتاب الدراما بـ «شعرة معاوية»؟

21-5-2025 | 15:33
ببن الحبكة الدرامية والحقيقة التاريخية متى يتمسك كتاب الدراما بـ ;شعرة معاوية;؟صورة تعبيرية

«شعرة معاوية» عبارة اصطلاحية أصبحت تجري مجرى الأمثال الدارجة على ألسن الناس، يُقصد بها الموقف غير الثابت، والذي يتبدل بين اللين والشدة بناء على موقف الطرف الآخر، من أجل إبقاء الوضع في المنتصف، ومنشأ هذا المثل هو ما يُنسَب لمعاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ  حينما سُئل: كيف حكمت الشام أربعين سنة رغم القلاقل والأحداث السياسية المضطربة؟، فقال:"لو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت، قيل: وكيف؟ قال: لأنهم إن مدوها خلّيتها وإن خلوا مددتها".       

موضوعات مقترحة

ومع الوقت تحوّلت «شعرة معاوية» من منهجية سياسية إلى موقف أو أسلوب اجتماعي متعدد المواقف، فيًقال أن فلاناً من الناس يستخدم شعرة معاوية؛ إذ كان يبدل مواقفه ويحاذر المصادمة، و تظهر  تلك العبارة أيضًا في عناوين الصحف وعلى ألسن المحلّلين لتصف سياسات الدول الخارجيةـ وتوسعت العبارة حتى أصبحت تطال مجالات مختلفة تظهر فيها نفس الفكرة.

لكن كتاب "الدراما التاريخية" على الساحة الآن أحوج ما يكونوا لهذه "الشعرة" الفارقة بين الحبكة الدرامية والحقيقة التاريخية، حتى لا تطغى الدراما على الحقيقة التاريخية فتحولها إلى قص خيالي أو أساطير الأولين. 

يتخد هذا المقال من أمير المؤمنين سيدنا معاوية بن أبي سفيان - رضي الله عنه - انموذجًا ومثالاً للشخصية الإسلامية التي يُساء إليها في الدراما التاريخية بقصد أو بدون قصد، وقد تأتي هذه الإساءة انطلاًقا من رغبة الكاتب في بلوغ درجة من الإبداع تؤدي إلى مالا يُحمدعقباه، خاصة وأن كثيرًا من المشاهدين ليسوا متخصصين في التاريخ الإسلامي والحضارة الإسلامية.

ويغيب أيضا عن الكاتب، أو الأديب أنه يتناول رموزًا إسلامية لها حفرت مكانتها في قلوب أمة الإسلام والمسلمين، وقد حث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ  على حب أصحابه ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ ، وجعل هذا الحب مقياسا لحبه ـ صلى الله عليه وسلم ـ، كما أن الطعن على أحدهم، ووضع الشبهات حوله يمكن أن يكون مدخلاً للطعن على غيره، بل والطعن في السنة النبوية الشريفة.

وكاتب هذه الكلمات محبًا للإبداع، يكتب القصة القصيرة، ويتابع الأعمال الدرامية بصفة عامة، والاسلامية والتاريخية بصفة خاصة، وذلك إبان ان كان لدينا مايميزنا في إنتاج الأعمال الفنية، كما أني لا أطلب من الأديب، أو الكاتب أن يكون مؤرخًا، وأعي تمامًا ان العمل الأدبي، أو الدرامي قد تكون له ضروراته الإبداعية، بيد أن هذا الإبداع يجب ألا يكون على حساب الحقيقة التاريخية، بما يؤدي إلى تشويه الشخصية التاريخية، خاصة إذا كانت هذه الشخصية من الرموز الإسلامية، ومن صحابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.

ومن الثوابت الدينية ان الله ـ سبحانه وتعالى ـ قد اطلع على قلوب العباد، فلم يجد أنقى من قلب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ، ولم يجد - سبحانه - أنقى من قلوب صحابته ـ رضي الله عنهم أجمعين ـ، فنحن بصدد الحديث عن خير القرون، كما قال الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث قال:"خير القرون قرني ثم الذي يلونهم ثم الذي يلونهم" قالها ثلاثا ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وهو القائل ـ صلى الله عليه وسلم ـ :(لا تسبوا أصحابي، فو الذي نفسي بيده لو أن أحدكم أنفق مثل أُحد ذهبا ما أدرك مُد أحدهم ولا نصيفه".

ومن المعروف أيضا ان الحديث عن عموم الشخصيات له ضوابط، فما بالنا ونحن نكتب، أو نتحدث عن أجل وأنقى وأفضل وأعظم من عاش على وجه الأرض بعد وفاة النبي ـ صلى الله عليه وسلمت/ بل إن مكانتي ومكانة الملايين غيري لا يمكن أن تصل إلى درجة الحكم على صحابي من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم....... فلماذا الإصرار على التشويه؟!.

لم تنل سيرة أحد من صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الإساءة والتشويه ما نالته سيرة سيدنا معاوية بن أبي سفيان ـ رضي الله عنه ـ، وعن جميع صحابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ؛ فراحوا يكيلون له الشبهات والاتهامات، فهو الذي أخذ الحكم عنوة، وهو من ذلك بريء، فلم تتملكه شهوة الحكم، بل كان في ذلك مجتهدًا بأن الحق معه، وللمجتهد أجرين إذا أصاب، وأجرًا واحدًا إذا أخطأ، وهو الذي دس السم لسيدنا الحسن بن علي ـ رضي الله عنه ـ، وهو من ذلك بريء، وهو الذي أمر بسب سيدنا علي بن أبي طالب ـ رضي الله عنه على المنابر ـ، وهو من ذلك بريء، وصوروه في صورة الملك المستبد الذي يعيش رغد الحياة ورفاهيتها، وهو من ذلك بريء أيضا.

لقد تناسى هؤلاء الذين كتبوا عنه أ نه صحابي جليل، وكل صحابة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سادة أجلاء، وكان كاتبًا الوحي، واليًا للشام في الخلافة الراشدة مدة تقترب من عشرين عاما، وقد تحدث الإمام البخاري - رضي الله عنه - عن فضله ضمن فضائل صحابة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وجاء في مروياته عنه إنه فقيه، وجاء في مرويات تاريخية متخصصة ما يُشير إلى زهده، ولا تناقض في هذا بين ما تتطلبه دواعي الحكم في متاخمته لحدود الدولة الرومانية إبان أن كان واليًا على الشام، وهو الذي دعا له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلا:"اللهم اجعله هاديًا مهديًا واهد به"، وهو صاحب المحاولات الأولى في فتح القسطنطينية، وصاحب الفضل في إنشاء الأسطول في الدولة الإسلامية في عهد الخليفة الراشد سيدنا عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ، وهو الذي توجهت الفتوحات الإسلامية في عهده نحو حدود مصر الغربية....... وهو...... وهو.. وهو...... والمناقب كثيرة... والشبهات مردود عليها، فلماذا اللجوء إلى التشويه، وننسى عظم الإنجازات والبطولات؟!!!!. 

ولا ننسى ان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تنبأ بما حدث من نزاع بين الصحابة (هو ناتج عن اجتهاد، وليس عن شهوة الحكم)، وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن سيدنا الحسن بن علي ـ رضي الله عنه ـ إن ولدي هذا سيد، وسيحسم الله به أمرا جلل....، فكان تنازل سيدنا الحسن بن علي رضي الله عنه، عن الخلافة، وتوحدت كلمة المسلمين، وساهم سيدنا معاوية في نشر الإسلام شرقًا وغربًا.... فلماذا التشويه؟!.

ويطيب لي أن اختم حديثي بما قاله القاضي أبو بكر بن العربي إن طالب العلم كان يسأل عن أحداث الفتنة بين (سيدنا علي وسيدنا معاوية) فكان يُقال له (تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ماكسبتم ولا تسئلون عما كانوا يعملون).

وعلى كتاب الدراما العودة إلى المصادر التاريخية المنصفة، والبعد عن الشبهات التي تسئ للسابقين من أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. 

أ.د. عادل يحيي عبد المنعم

عضو اتحاد المؤرخين العرب

عضو الجمعية الصرية للدراسات التاريخية


د. عادل يحيي عبد المنعم د. عادل يحيي عبد المنعم
كلمات البحث
اقرأ أيضًا: