أيام في بغداد.. ما أحلى أن يعود المرء إلى أحضان المحبين، إنها أرض الرافدين، إنه العراق وإن طال السفر. إنها المرة الأولى لي، وبالطبع مر زمن طويل، ولكن أن تأتي متأخرًا خير من ألا تأتي أبدًا، ولقد حضرت لأتابع القمة، وألتقي بالأصدقاء في مؤتمر الإعلام العربي.
إلا أن أهم ما شغلني هو السؤال: العراق إلى أين؟
ويمكن القول براحة تامة أن هذه أمة تُلملم جراحها، وتحاول أن تتخلص من "كوابيس الماضي"، إلا أن الأشباح تُطارد الحاضر في العراق. القصص تُطاردك أينما ذهبت، إنها قصص مغموسة بالدماء والأحزان. ربما الواقعية السياسية تقتضي "التصالح عند قبور الماضي"، والمضي قدمًا، لأن الأمم لا تملك ترف الانتظار طويلًا. إلا أن الماضي لا يموت في الشرق الأوسط.
وفي الوقت الذي يسابق العراق الجديد الزمن في إزالة ركام "الحروب التي لا تنتهي"، فإن الأمة العراقية بدأت رحلة مُضنية على طريق التعافي، والتعايش الصعب بين مواطنيها.
ويبدو للمراقب أن العراق يتوسل بالوطنية لبناء أمة الزمن الجديد، وكيف لا يكون ذلك لبلد مزقته الحروب والحصار الاقتصادي، والغزو الأمريكي، والإرهاب، وعمليات القتل والانتقام، وانهيار الدولة. ومن النكات المحزنة المبكية التي ترددت خارج العراق خلال الفترة الحزينة، أن مواطنًا مصريًا حاول أن يتصل بأحد الأصدقاء العراقيين، وعندما انتهى من إدخال الرقم جاءه الرد يقول: "عفوًا، العراق خارج الخدمة".
ومن المحزن أننا فقدنا العراق فترة ليست قصيرة، وفقد العراقيون تواصلهم بمحيطهم العربي. وشعروا أنها "دهر من الزمن"، وأن العراق ذهب ولن يعود. ولربما شعر أهل العراق أن إخوته تركوهم. وبالقطع هجر المحبين قاسٍ ومؤلم. والآن التقينا، وفجأة أصبحنا أمام العديد من المظلومين، والكثير من المظلوميات. فقد جاء الدور على السنة لكي يرفعوا "صوت مظلوميتهم"، وهؤلاء يقولون: لقد فقدنا الوطن المستقل، وأوضاعنا الآن أسوأ عن ذي قبل، ونحن ندفع ثمن ما جرى في عهد صدام حسين من مظالم، ويشيرون إلى ما عانوه من انتهاكات في أيام العهد القديم.
والحال كذلك بالنسبة للكرد، الذين غالبًا ما تكون بداية الشكوى "مأساة حلبجة"، والشكوى من عدم قبول غالبية العراقيين لإقامتهم دولة كردستان، والقائمة تطول، وآخرها عدم صرف الرواتب للموظفين الكرد، أو تأخرها. أما الإخوة الشيعة فهم يبدأون بالشكوى من انتهاكات صدام ضدهم، واعتقالهم، وفقرهم، وبعدما تحرروا من الظلم، وباتوا في مقعد القيادة والحكم فقد استمروا بالشكوى من الفقر، وقال لي أحد المسئولين في النجف إن السنة أغنياء، ونحن الشيعة فقراء. وفي مدينة كربلاء اشتكى مسئول آخر من أن "كربلاء مظلومة"، وأشار إلى ظلم الإعلام العربي لكربلاء وأهلها؛ وتقديم صورة سلبية عن مدينتهم، وأن العرب لم يفعلوا شيئًا لإنصاف الشيعة في الماضي ولا الآن.
وأحسب بداية أن الجميع عانى من قبل، وربما لم تفعل الأنظمة الرسمية العربية الكثير لسكان العراق من قبل، ولا ما يريدون في الوقت الراهن، ولربما مرد ذلك حسابات سياسية ومخاوف أمنية.
ولكن الإنصاف يقتضي الإقرار بأن الشعوب ليس لديها سوى إبداء الغضب والتعاطف. وربما يقول البعض: "تعاطفك وحده ليس كافيًا، وأنتم أهل الإعلام تقدمون صورة غير صحيحة عن أوضاع العراق".
وفي المقابل يبدو العراق وأهله في عين المراقب المحايد قد "ألفوا الشكوى"، ويتعجلون العودة إلى الحضن العربي. ورغم أن "عتب المحبين" يعكس قدرًا من الحب، إلا أن هذه الشكوى الجماعية، والممزوجة بحرقة وألم، والمطالبة بسرعة العودة لاحتضان العرب للعراق وهمومه، تعكس أن العراق لم يتعافَ تمامًا، وهو ما يتبدى في حديث العراقيين عن أن العراق قد تخلص من مشاكله، وأنه في طريقه لاستعادة مكانه ومكانته من جهة، والشكوى والخوف من تفجر الوضع من جهة أخرى.
وأحسب أن العراق بالفعل يتعافى، ولقد سعدت بورشة الإعمار، وبعودة المصريين للعمل في العراق، وسعدت أنا وآخرون ممن جاءوا للقمة العربية، ولمؤتمر الإعلام العربي بكل هذا الحب لمصر ولقيادتها السياسية وشعبها. يقولون لك: "هوى العراقيين مصري". وبالطبع نحن نسعد ونعتز بذلك.
ومن ناحية أخرى لا يملك المرء إلا أن يبدي إعجابه بهذا القدر من الحوارات المستمرة، وبتلك المقدرة الكبيرة للنخبة العراقية على أن تناقش بهدوء أدق وأصعب الأمور.
وقال لنا أحد رجال الدين الشيعة إن "الحوار ضرورة للتعايش"، و"إن المرء بحاجة للحوار لكي ينضج، وإن في الغالب لدى الآخرين ما ينفعه". وفي اعتراف لافت قال سماحته إن "المذهبية الضيقة بلاء كبير ابتلي به الإسلام، وإن ذلك يعود إلى التخلف".
وبالنظر إلى أن الكثيرين من أهل شيعة العراق يحاولون السير على هدي "أدب وأخلاق آل البيت"، فهو يقول لنا أن الإمام علي بن أبي طالب يقول: "ليس من العصبية أن يحب المرء قومه، ولكن العصبية أن ترى شرار قومك خيرًا من خيار قوم آخرين"، ويؤكد أن العصبية تقود إلى الجمود الفكري، وهو ما يقود إلى الصراعات.
وبنبرة صادقة يقول سماحته: "إذا كان الإسلام يتعامل بانفتاح مع الآخرين، فما بالك مع بقية المسلمين". ولعل أجمل ما قاله لنا هو: "حتى في أصول الدين، لا يجب بناء المعتقد على التعصب بل الوعي".
ولقد كانت دعوة مهمة، فما أحوجنا إلى الوعي بأحوالنا وأحوال الآخرين، ولقد شاهدت في النجف وكربلاء والكوفة، وفي مراقد آل البيت حبًا كبيرًا للرسول الكريم محمد "صلى الله عليه وسلم"، وصليت في هذه المساجد ولم أرَ لطمًا ولا سبًا، ويقول لي كثير ممن حاورتهم: "كيف لنا أن نسب أمنا عائشة، زوجة رسولنا الكريم".
وعندما تقول: إذن من هؤلاء الذين يفعلون ذلك، ويتسببون في الشقاق والفتنة؟ فإن مُحدِّثي يقولون: "إنهم بعض الجهلة المتعصبين المتطرفين، مثلما يوجد على الطرف الآخر متطرفون".
وأحسب أن الصورة النمطية والمصنوعة لكي تفرقنا قد حان وقت تفنيدها، وبات الوقت مناسبًا للحوار والوعي بحقيقة الوضع، ودعوة هذه الأصوات المعتدلة للعمل معًا للخروج من نفق الفتنة، وتبديد ظلام الجهل والمخاوف التي لا مبرر لها. لقد بات أكبر مخاوفنا هو الخوف نفسه.
ولعل أجمل ما صادفناه هو سماحة آية الله السيد حسين السيد إسماعيل الصدر، لقد قال لنا أن الطوائف طرق إلى الله، وأن الطائفية سبب للنزاعات. وعندما قلت له: إذن كيف نفسر ما يحدث؟ قال: إن هؤلاء يعكسون ثقافتهم وموروثهم، ولا يمثلون ثقافة الإسلام.
وقال: المذاهب يُطلق عليها "المدارس"، وهي تُكمل بعضها بعضًا، وخلاصة قول سماحته: "ضرورة وضع الدين فوق السياسة"، وأن من يُسيِّس الدين فقد أهانه، وأن الحل هو "الوطنية"، وفي مفهومه "الوطنية أمر لا يمكن تجاهله، ومن الفطرة، والإسلام جعل حبها من الإيمان".
ولعمري هذا هو الطريق. وأحسب أننا جاهزون لأن نمضي معًا في طريق دعم العراق الموحد، والذي لا نخشى من أن يُعيد فتح "صندوق باندورا" لتنطلق منه كل الشرور لتُطاردنا.