الزهد ومراتبه .. وواقعنا المعاصر

21-5-2025 | 14:48

إنه من المفيد أن نبدأ مقالتنا بطرح سؤال مهم، على الأقل من وجهة نظري: هل تغير مفهوم الزهد مع تغير واقعنا المعاصر الذي نحياه؟ هل تحول الزهد من معناه الشريف إلى معنى آخر أقل ما يمكن أن نصفه به، إلى لا مبالاة، إلى تواكلية، إلى تسولية؟! كالمناظر التي نراها أمام المساجد، خصوصًا مساجد السيدة زينب، والإمام الحسين، والسيدة نفيسة رضي الله عنهم جميعًا.

ما المقصود بالزهد؟ الزهد أن تزهد فيما في أيدي الآخرين، وترضى بما قدره الله تعالى لك، ولا تنظر إلى من هو فوقك أو ما هو أعلى منك منزلة، وإنما تنظر إلى من هو دونك في الرتبة والمنزلة، فلا تقول: لماذا هو أُعطي من خيرات الدنيا وأنا لا؟ لماذا هم سعداء ونحن تعساء؟ لماذا هم أغنياء ونحن فقراء؟! لماذا هم أصحاء ونحن مرضى؟!

ذكر سفيان الثوري -رحمه الله تعالى- نوعين من الزهد: زهد الفرض، وزهد النفل.

أما زهد الفرض، فأن تترك الدنيا بما فيها وعلى من فيها، وتترك الأغيار وتتوجه قلبًا وقالبًا بكليتك إلى رب الأغيار، وأن تتجافى عن دار الغرور، والإنابة والعمل إلى دار السرور، دار البقاء الأبدي السرمدي التي ليس فيها نصب ولا شقاء، وإنما فيها السعادة المفارقة، سعادة تجمع في باطنها مدارج الملذات.

أما زهد النفل، فهو زهد التطوع، بمعنى أن تزهد فيما بين يديك وتجود به على عباد الله تعالى للمحتاجين حَسبةً لله تعالى؛ كأن يكون لديك مال كثير فتتقي فتنته وتخرجه حَسبةً لله، لا تُبقي منه إلا ما يُعينك وأسرتك على الحياة، وهذا من وجهة نظري التوسط والاعتدال في الزهد، فنحن ما نحن إلا بشر ولسنا ملائكة، ولدينا متطلبات ومقومات لحياتنا، فلا ينبغي أن ننفق كل ما لدينا، وبعدها نسأل الناس أن يُعطونا، ومنهم من سيُعطي ومنهم من سيمتنع، فلماذا نضع أنفسنا في هذا الحرج؟!

وكأن تكون صاحب علم فلا تبخل به على من يحتاجه، وليس معنى زهدك في العلم هنا أن تتركه وتهمله، لا، وإنما لا ينبغي أن تفتتن به، وإنما تنسبه إلى من علمك، ولا تتعالى ولا تتكبر به على طلابك إن كنت معلمًا أو فقيهًا، وإنما تنفقه -أي تُعلّمه- حَسبةً لله.

وكأن تكون ذا عصبة وحسب ونسب، فتزهد في كل ذلك، لا أن تتنصل من حسبك ونسبك، وإنما تزهد في التغني به، وأنك من نسل فلان وأمك فلانة ابنة فلان، فكلنا لآدم وآدم من تراب، ولا تُعيّر من هو دونك حسبًا ونسبًا حتى لا تكون مع الهالكين.

أو تكونين ذات جمال أو ذا مظهر مهندم وشكل جذاب، فلنزهد في ذلك أيضًا، وليس معنى أن تزهد هنا أن تعبث بخلق الله، أن تقوم بتقبيح وجهك أو تلبس المُهلهل من الثياب، أو تهيل التراب على وجهك فتصبح أشعث أغبر، لا، ليس هذا زهدًا، وإنما لا تتكلف ولا تُغالِ في اللباس والزينة. فكما ننصح النساء بعدم التبرج مصداقًا لقوله تعالى: ﴿وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ﴾، ﴿وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾.

كذلك ننصح الشباب الذكور بعدم التكلف في المظهر، وعدم المبالغة في قصات الشعر بأنواعها الحداثية كما يدعون، أو في لباس البنطال المُقطع والسلاسل في الرقبة والحظاظات والمسابح في الأيدي، والشعر المضفر والمفلفل، الشورتات، والخروج بها إلى الشارع، فهذه أفاعيل شيطانية تفقدك رجولتك، وستتعرض للنقد والتوبيخ من كل من سيراك، فلا تظن أن أفاعيلك هذه ستُكسبك جمالًا، إن الزهد في مثل هذه الأشياء يجعلك شابًا صالحًا تستطيع بعد ذلك أن تتحمل المسئولية، ولنا في حديث النبي -صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة: "إِنَّ اللهَ تعالى لَا ينظرُ إلى صُوَرِكُمْ وَأمْوالِكُمْ ، ولكنْ إِنَّما ينظرُ إلى قلوبِكم وأعمالِكم".

أما بالنسبة لمراتبه، فقد حدثنا عنها إمام الزهاد أحمد بن حنبل -رحمه الله- يقول: الزهد على ثلاثة أوجه: الأول: ترك الحرام، وهذا زهد العوام. والثاني: ترك الفضول من الحلال -الشيء الزائد على الحد، تركه هذا من الزهد- وهذا زهد الخواص، لكن أعلى مرتبة في الزهد: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين. هذا بالنسبة للإمام أحمد بن حنبل (رحمه الله).

أما اجتهاداتي الشخصية في مسألة مراتب الزهد: فأقول من الممكن تقسيم مراتب الزهد إلى ثلاث مراتب:
مرتبة خواص الخواص
مرتبة الخواص
مرتبة العوام

والمدقق سيلاحظ أنني بدأت المراتب من أعلى هبوطًا إلى أسفل.

أما مرتبة خواص الخواص، فهي مرتبة المصطفين الأخيار، الأنبياء -عليهم السلام- ثم الذين يلونهم، لماذا؟ لأن لنا فيهم الأسوة الحسنة، فقد ضربوا لنا أروع الأمثلة في زهدهم الذي قادهم إلى المراتب العُلى وبلغوا ما كلفوا به من رسالات. فها هو النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يضرب المثل الأعلى في الزهد، عندما خُيّر بين الفقر والغنى، قال: "أجوع يومًا وأشبع يومًا، فإذا ما جعت صبرت وإذا ما شبعت شكرت". أليس هو من ربط حجرًا على بطنه؟

ولنا في سيدنا سليمان الذي أعطاه الله المال والحكم والنبوة، فعندما وجد أن حبه لجياده سيلهيه عن ذكر الله، قال: ﴿إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ﴾.

ثم ها هي مرتبة الخواص، أهل الفضل الذين منحهم الله القناعة في كل شيء، والاقتصاد في كل شيء دونما إفراط أو تفريط، فزهدوا في الدنيا لكنهم لم يفرطوا فيها بالكلية.

أما مرتبة العوام، فهم بسطاء القوم، هم الذين يتلقون تلقيًا، يقولون لهم: ازهدوا في الدنيا فيزهدوا زهدًا وقتيًا، وما أن يزول المؤثر يعودون إلى حيواتهم يمارسونها كما هي؛ وأمثال هؤلاء يحتاجون دومًا إلى النصح والإرشاد، وليس معنى العوام أنهم يُوصفون بالدونية، لا نقول ذلك، فهناك عوام العلم، وعوام المعرفة، وعوام الفقه، غير الدارسين لهذه الأشياء وإنما يتلقونها تلقينًا.

إن حديثنا عن الزهد وربطه بواقعنا المعاصر لا نقصد به الدعوة إلى التواكلية، ولا دعوة لقتل النفس وإفساد الحياة، وإنما دعوتنا تحمل ما تحمله من الوسطية والاعتدال، دونما تكلف في الزهد، ودونما إهمال له والانغماس بالكلية في متعتنا وملذاتنا، وإنما دعوتنا تحمل ما تحمله من الاعتدال حتى يسود المجتمع المساواة وتعم المحبة؛ فليس من المعقول أن نكنز الذهب والفضة والأموال الطائلة ولا نؤدي حق الله في هذه الأموال، وحق الله هو حق الفقراء عن طريق الزكاوات والصدقات، فالزهد في المال هنا بعدم اكتنازه وإنفاقه في وجوه الخير. فلن تدخل أموالنا قبورنا وإنما سنأتيه تعالى فرادى.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا: