القمة العربية بين نداء الحق وتحديات التاريخ

19-5-2025 | 15:58

رغم ما بدا عليه مشهد الحضور في الدورة الرابعة والثلاثين للقمة العربية المنعقدة في بغداد من تمثيل سياسي دون المستوى المأمول، وهو ما قد يُخيب آمال الشعوب في لحظة تاريخية حرجة تمر بها الأمة العربية، حيث تتكاثف التحديات وتتعاظم التهديدات التي تطال البنية الحضارية والكيانية للعالم العربي، إلا أن القمة -في بنيتها العميقة ومضامينها الرمزية- انطوت على رسائل تتجاوز الظاهر إلى ما هو كامن في الوجدان العربي المشترك.

إن غياب عدد من القادة العرب، وإن كان لافتًا في توقيته ودلالاته، لا يمكن قراءته فقط بوصفه انكفاءً أو تراجعًا، بل يمكن تأويله أيضًا باعتباره إشارة إلى تحوّل في موازين القيادة داخل المنظومة العربية. 

فالريادة، كما تَعلمنا من جدلية التاريخ، ليست منوطة بالمكانة الشكلية، بل بالقدرة على تحمّل المسئولية التاريخية في لحظة انكشاف الكينونة العربية أمام معادلات إقليمية ودولية جديدة. 

وهنا تتبدى أهمية العراق، ككيان تاريخي عريق، استعاد شيئًا من بريقه عبر هذه القمة، ليؤكد أن المركزية لا تُصطنع، بل تُنتزع عبر الفعل الحضاري والاستعداد لتحمّل عبء التاريخ.

لقد كان لي شرف الحضور والمشاركة في فعاليات هذه القمة، التي فاقت في تنظيمها واستعداداتها كثيرًا من التوقعات، وقد بُذلت فيها جهود غير اعتيادية لاستقبال الضيوف بطريقة تعبّر، لا عن كرم الضيافة فقط، بل عن عمق إدراك العراق لمكانته ودوره في قلب الأمة. 

كانت بغداد، في هذه اللحظة، لا تستقبل الزعماء فقط، بل تستقبل أشجان الأمة، جراحها، وأحلامها المؤجلة، في مشهد يشي بأن العراق قد نفض عنه رماد السنين العجاف، وأعاد التوازن إلى ذاته، ليبني من ركام الأزمات جسدًا صلبًا قادرًا على المضي في وجه العواصف.

لقد لمست في كل تفصيلة من تفاصيل القمة -من الكلمات إلى اللقاءات، من التنظيم إلى الرسائل الرمزية- ذلك الشموخ العراقي المتأصل، وذاك الإيمان العميق بأن بلاد الرافدين ليست فقط تاريخًا مجيدًا، بل مشروع حيوي يتحدى الحاضر ويصوغ المستقبل. لقد قالت بغداد كلمتها، لا بوصفها عاصمة لدولة، بل باعتبارها مركزًا حضاريًا يوقظ الذاكرة، ويعيد رسم خرائط الزمان والمكان، ليؤسس سردية جديدة للأمة، تنبثق من الألم ولكنها لا تستكين له، وتستدعي التاريخ لا لتحنّط فيه، بل لتستنطقه، وتبني عليه.

وبين الإعلاميين العرب في قصر السلام ببغداد، أدركت المعاني العميقة التي تتقاطع فيها الدولة مع الرسالة، والرمز مع السياسة. 

هناك، لم تكن الكلمات مجرد تعبيرات بروتوكولية، بل كانت تمثّل لحظة انبعاث حضاري، إذ استعادت بغداد صوتها، لا بصخب مؤقت، بل ببريق متجدد، وثقة نابعة من إدراك أصيل بقدرة هذا الوطن -شعبًا وقيادة ومؤسسات- على أن يكون طرفًا فاعلًا في معادلة إقليمية مضطربة، وناطقًا رسميًا باسم تطلعات مشروعة طال انتظارها.

وجاء خطاب الرئيس الدكتور عبداللطيف جمال رشيد كخارطة طريق تتجاوز اللحظة، وتنظر إلى الأفق؛ توازن بين حلم الدولة وجرح الأمة، بين الواقع القاسي وإرادة التغيير. وحين تحدّث عن فلسطين، لم يكن حديثًا عن ملف سياسي أو محور تفاوضي، بل عن "الحق الأول"، ذاك الذي يتجاوز الحسابات الظرفية ويضرب بجذوره في الضمير الإنساني والذاكرة الجمعية. فلسطين، في هذا السياق، ليست جرحًا فحسب، بل معيار أخلاقي تُقاس عليه مصداقية الأنظمة ومشروعية الخطاب.

وقد بدا واضحًا أن هذا الخطاب لم يكن منعزلًا عن مآسي سوريا والسودان واليمن، إذ تم استدعاؤها لا كأزمات متفرقة، بل كجراح متكاملة في جسد واحد، تنطبق عليها الحكمة النبوية: "إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى". 

لقد كانت الكلمات صدى لحالة وجدانية عابرة للحدود، تنبثق من وعي بأن الألم العربي ليس مصادفة، بل نتيجة تراكمات، وأن تحمّل الألم لا يعني التطبيع معه، بل تحويله إلى طاقة مقاومة وتضامن.

وفي تلك اللحظة، استعاد العراق، من قلب بغداد، زمام المبادرة. لم يكن الماضي فيه عبئًا، بل رصيدًا حضاريًا يحفّز على الفعل، ولم تكن القمة مجرد اجتماع، بل كانت عملية رمزية لإعادة تعريف الدور والهوية. 

إن العراق، الذي نفض عن نفسه رماد السنين العجاف، نهض اليوم بقامته التليدة، لا ليطالب فقط بمكانته، بل ليعيد تشكيل الخريطة النفسية والسياسية للأمة. ولذا، أدركنا أن بغداد لم تكن تستضيف القمة، بل كانت، في جوهرها، تُعيد تعريفها.

 كما كان لي شرف اللقاء بعدد من الشخصيات السياسية والفكرية البارزة، وهي لقاءات تركت أثرًا بالغًا في النفس، لأنها لم تكن مجرد تبادل للمجاملات، بل لحظات كشف وإدراك، تبلورت فيها قناعة حاسمة بأننا نقف اليوم عند مفترق طرق، حيث لا يعود الصمت خيارًا، ولا الضبابية وجهة. لقد بدت لي تلك اللحظة وكأنها استمرار لذلك الصوت العربي الصريح، الذي انطلق زئيره من القاهرة، حين اجتمعت الأمة في قمتها الطارئة لتقول "لا" لمحاولات التهجير، و"لا" لمحاولات تصفية القضية الفلسطينية تحت مسميات جديدة.

واليوم، ها هو هذا الصوت يواصل مسيرته الملهمة من بغداد، لا على سبيل التكرار، بل عبر تعميق المسار وتوسيع الدلالة، ليقول إن القمم لا تنعقد فقط كردود أفعال، بل كرؤية إستراتيجية لإعادة صياغة الواقع، وتحويل الأزمات إلى فرص للبناء والتكامل. 

ومن أبرز ما جسّد هذا المعنى اللقاء الذي جمع بين الرئيس عبدالفتاح السيسي ورئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني على هامش القمة؛ لقاء لم يكن محصورًا في بروتوكولات سياسية عابرة، بل مثّل تأكيدًا لثوابت تتصل بالثقة المتبادلة في قيادة العمل العربي المشترك خلال المرحلة المقبلة، وتجسيدًا للدور المحوري الذي تضطلع به مصر، ليس فقط داخل النظام العربي، بل في رسم خطوط التوازن إزاء التحولات الإقليمية والدولية المتسارعة.

وقد كانت هذه القمة مناسبة ثمينة لاستكمال حوار التعاون البنّاء بين بلدين يمتلكان من العمق التاريخي، والرصيد الحضاري، ما يؤهلهما لتشكيل رافعة إستراتيجية للمشروع العربي؛ سواء في مجالات الاقتصاد والتجارة، أو في مشروعات البنية التحتية والطاقة، حيث تضطلع الشركات المصرية بدور فاعل في دعم برامج التنمية العراقية، في تأكيد ملموس على أن المصالح المشتركة لا تولد من اتفاقات مؤقتة، بل من تاريخ مشترك، ووعي مشترك، وأفق مشترك.

إن التحديات الراهنة، في ظل هذا التنافس العالمي الشرس، لا تواجهها إلا أوطان قوية، قادرة، منتجة، تعرف موقعها في الجغرافيا، وتدرك رسالتها في التاريخ. وقد جاءت قمة بغداد لتعلن، من جديد، أن هناك من يرفض تصفية فلسطين تحت أي مسمى، وأن العالم العربي، حين يتحدث بصوت واحد، يمكنه أن يعيد تعريف المعادلة، لا أن يكون مجرد متغير فيها. 

وتوالت الرسائل التي أكدت بما لا يدع مجالًا للشك أن القمة في بغداد لم تكن مجرد حدث عابر، بل كانت محطة مفصلية في لحظة تاريخية فارقة. فقد بلغت كلمات الزعماء مسامع القلوب قبل أن تصل إلى مسامع الآذان، حتى تلك الآذان التي طالما آثرت الصمت، أو اعتادت على ضجيج لا يقول شيئًا. كان صوت الحق هذه المرة جليًّا، والتفّت الشعوب حوله لا من باب العاطفة، بل من موقع الوعي العميق، بأن بوصلة الأمة لا تزال تشير إلى حيث يجب أن تكون: فلسطين.

وقد قالها الرئيس عبدالفتاح السيسي بوضوح لا يعرف المواربة، إنه لا سلام دون حق، ولا استقرار دون عدالة، وإن الدولة الفلسطينية المستقلة، بعاصمتها القدس الشرقية، ليست مطلبًا تفاوضيًا، بل حق تاريخي، وقانوني، وإنساني. إنه الحد الأدنى للعدالة، لا أقصاها، ولا ترفًا سياسيًا يُمنح أو يُسحب. واتفقت كلماته مع كلمات الزعماء العرب، على أن ما يجري في غزة والضفة الغربية ليس صراعًا عاديًا، بل إبادة ممنهجة لشعب أعزل، في واحدة من أقسى وأبشع المآسي الإنسانية في التاريخ الحديث. فكل يوم يُسجل عشرات الشهداء، ومئات الجرحى، ومن لا يسقط تحت القصف، يسقط تحت وطأة الجوع والمرض. لا طحين، لا ماء، لا دواء. إنها معادلة الموت المتعدد الأشكال، الموحد في الغاية: تدمير الحياة الفلسطينية من جذورها. وأمام هذا الانكشاف الإجرامي، الذي أصبحت معه الدولة الفلسطينية مستباحة علنًا، دون مواربة أو خجل، كان لا بد أن يكون للقمة العربية في بغداد صوتها وكلمتها وموقفها، لا فقط من باب التضامن، بل من موقع الفعل، ومن منطلق الواجب الحضاري.

ولذلك، فإن الشعوب العربية، وهي التي تتابع هذا المشهد الدامي، لم تسمع فقط البيانات، بل التقطت ما وراء الكلمات: تلك الرسالة القاطعة بأن السلام لن يُصنع على أنقاض الحقوق، وأنه "حتى لو نجحت إسرائيل في إبرام اتفاقيات تطبيع مع كل الأنظمة العربية، فإن السلام الحقيقي، الدائم، والعادل، سيبقى بعيد المنال، ما لم تُقم دولة فلسطينية على كامل حقوقها، وفق قرارات الشرعية الدولية".

وهنا لا تكون اللغة الدبلوماسية كافية. فالمطلوب الآن هو تفعيل الموقف، وتطوير أدوات الردع السياسي والمعنوي، بل والاقتصادي إن تطلب الأمر، لمواجهة كل ما يعوق تحقيق هذه التطلعات المشروعة. إنها لحظة تختبر فيها الشعوب قياداتها، وتختبر فيها الأنظمة قدرتها على الوقوف صفًا واحدًا، مستفيدة من موجة الرفض الدولي المتصاعدة إزاء الممارسات الوحشية في الأراضي الفلسطينية.

وفي ظل هذا الإجرام المستمر، وهذا التواطؤ المتواصل من بعض القوى الكبرى، فإن بيان قمة بغداد لا يجب أن يُقرأ كوثيقة رسمية وحسب، بل كمرآة تعكس لحظة وعي حضاري تمر بها الأمة، لحظة يعاد فيها تعريف السياسة كأداة للكرامة، لا للبراغماتية فقط، فالنداء بوقف نزيف الدم لم يعد مجرد نداء عربي، بل نداء إنساني شامل، موجّه إلى ضمير عالمي تاه عن بوصلة العدالة، وأصبح بحاجة إلى من يذكّره بأن فلسطين ليست فقط قضية سياسية، بل هي امتحان أخلاقي للإنسانية كلها. وأن محاولة طمسها ليست فقط محاولة لتصفية كيان، بل لطمس أحد أهم معالم الهوية التاريخية للإنسان الحديث. وما دام الصوت العربي مستيقظًا، والضمير العربي حاضرًا، فإن تلك المحاولات ستظل تصطدم بجدار من الوعي، راسخ، عصيّ على التزييف، ورافض لكل أشكال الإلغاء والنسيان.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة
عاجل
  • نتنياهو: إيران تمتلك قدرات كبيرة لإلحاق الأذى بإسرائيل