ثمة "رياح مختلفة" تهب على العالم العربي قادمة من العراق، إنها "نسمات هادئة"، على عكس "صورة العراق" المضطرب، وساحة تصفية الحسابات. وخيمت "الرياح المعتدلة" على القمة العربية، لتمضي دون "دراما صاخبة"، أو "تفجر عاصفة" من عواصف "الحروب الباردة العربية"، التي كانت تميز القمم أيام القذافي وصدام والأسد. لم تكن هناك انقسامات حول القضية الفلسطينية، بل سباق من أجل إنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، ووقف الإبادة في غزة، وإعادة الإعمار.
وفي الأروقة كان هناك "عتب المحبين" إزاء بعض من تمنت بغداد أن يشاركوا لحظة التعافي، أو من وعدوا بالحضور، ولكن تغيبوا في اللحظات الأخيرة، وفي الوقت نفسه وبلغة العتاب "تمنى البعض، ولا زال في أروقة الحكم الجديد ألا يحاول البعض استدعاء أشباح الماضي، فالطريق الجديد تخلص من حقائب الماضي الثقيلة، ولا يرغب سوى في احتضان إخوته له، وساد امتنان كبير لمصر، وقائدها الرئيس عبدالفتاح السيسي، فمصر بثقلها تعوض الغياب، وبحنكتها تساعد إخوتها في النجاح، ولملمة أسباب "عتب المحبين".
وبعيدًا عن ذلك، عاد العراق المعافى لينهض من جديد، وحتى أجواء الطقس كانت مرحبة، وحملت نسمات منعشة لا لفحات حارقة، وأحسب أن محمد شياع السوداني رئيس الوزراء العراقي تمكن من أن يضبط "لغة الحوار" فيما يتعلق بالقمة، تعززه إنجازاته على الأرض العراقية؛ ونجاحه في تخفيف "التوقعات المحلقة" والمبالغ فيها من القمة، ولقد نجح في أن يبشر بالعراق الجديد، والذي هاجسه وأولوياته ثلاثة أمور: الاستقرار والاستثمار والواقعية السياسية، ولقد حمل الرجل أولوياته ولغته وأسلوبه على طول الطريق لأهم "تجمع عربي"، وهو تجمع أهل "القمة العربية"، والذي تتابعه الجماهير العربية، والأوساط السياسية الإقليمية والدولية.
ولعل أبرز ما يمكن ملاحظته هو أن "العراق الجديد" في ظل السوداني بات لديه "فريق محترف" من الدبلوماسيين، وهؤلاء أكثر ارتباطًا بلغة العالم الجديد، والذين قدموا صورة مغايرة عن شخصيات أخرى لا تزال رهينة المرارات القديمة، وتحمل على ظهرها "حقائب الماضي الثقيلة"، وأبرزت القمة وجهًا محترفًا، ومميزًا، ومحاورًا بارعًا، وهو السفير هشام العلوي وكيل وزارة الخارجية لشئون التخطيط السياسي، وعلى مدى أيام، تمكن العلوي بهدوء من شرح ماذا تريد بغداد من القمة، وما الذي يمكن للعرب أن يتوقعوه من "العراق الجديد"، ويرى العلوي إن "العراق حريص ليس فقط على نجاح القمة شكلًا من حيث التنظيم، وإنما كذلك استثمارها للخروج بقرارات ومواقف تعزز العمل العربي المشترك في مجالات مختلفة، سياسيًا، وأمنيًا، واقتصاديًا، وإنسانيًا، واجتماعيًا، وتعليميًا، وثقافيًا"، وهو ما تحقق الكثير منه.
والرجل لا يجمل أو يحاول التجمل، بل يوافقني الرأي بأن لدينا تحديات عديدة في عالمنا العربي، ونحتاج إلى أن نتعاون لتعزيز الاستقرار الإقليمي، وإنهاء الحروب، والنزاعات، والصراعات التي كلفت شعوب ودول المنطقة أثمانًا باهظة، وأدت إلى بروز ظاهرة التطرف والإرهاب، لهذا نحتاج إلى تعاون في هذا المجال.
وعندما قلت له نعم هذه التحديات ضخمة، وواضحة، والسؤال الملح هنا: ترى ماذا يمكن لكم أن تقدموا في مواجهة هذا كله؟ وهنا العلوي يتحمس لبلاده ليقول لي "العراق لديه تجربة غنية بهذه الجوانب، ولعب دورًا إيجابيًا على مستوى الدول العربية، وعلى مستوى دول المنطقة لتوفير منصات للحوار الإقليمي والدولي، ويريد أن يبني على ذلك ويعزز دوره في هذا الجانب".
ومن جانب آخر، لا يخفي العراق الجديد رهانه على حاضنته العربية، وتطلعه لعودة العراق لكي يأخذ مكانه ومكانته بوصفه "قوة مهمة" للعالم العربي، والجديد هذه المرة هو أن العراق لا يتحدث لغة عاطفية بل "لغة المال والأعمال"، وأعرب العلوي عن سعي العراق لزيادة الاستثمارات العربية على قاعدة الكل رابح، ويقول بوضوح "نريد أن ندفع باتجاه زيادة الاستثمارات العربية، والعراق حريص على أن يستقطب المزيد من الاستثمارات لتطوير قطاعات مختلفة، منها قطاع الطاقة المتجددة، الزراعة، الصناعة، السياحة، وغيرها"، وجاءت نتائج القمة تحمل ذلك كله، وفي هذه النقطة ما يجري على أرض الواقع ما بين مصر والعراق مبشر، فالاستثمارات والتجارة تشهد طفرة.
ولكن يجب هنا أن نسجل بعض النقاط التي تستحق التأمل: بداية باتت القمة العربية تحدث في موعدها بانتظام، وحدثًا لمناقشة القضايا لا تقديم استعراضات أو تلاسنات، وبالتالي ربما من وجهة نظر الإعلام "قمة ليس بها بهارات حارة"، وأحسب أن ذلك يقول إن العرب، والعمل العربي المشترك دخل مرحلة متقدمة من النضج والاحترافية.
والأهم أن القوى الدولية باتت أكثر من أي وقت مضى تتعامل مع العالم العربي بوصفه كتلة جيوسياسية، ومن بوابة الجامعة العربية، وفي الوقت الذي تستعد فيه الصين لعقد قمة عربية صينية جديدة، فقد أعلن بوتين عن أول قمة روسية عربية، ولقد علمت أن هناك تحركات لعقد قمة عربية أوروبية، وفي المقابل يبدو أن البعض من خارج الأوساط العربية لا يروقه "واقعية العرب الجديدة"، ولم يتوقف عن محاولة إقحام القمة في هاوية التناحر، أو فرض أمور مثيرة للصدام، ولكن تبددت المحاولات، ونجحت القمة بلا صخب.
وفي ذات الوقت ناقشت «القمة التنموية الخامسة» القضايا الحيوية لحاضر العرب، ومستقبل الأجيال العربية، وهنا حدث تناغم عربي. والرسالة واضحة: ضرورة التكاتف لتحقيق المصالح العربية، وتعزيز العمل العربي لحل الأزمات، والتكامل الاقتصادي سيعزز قدرة الدول جميعًا، واقتصادات الدول العربية ستكون مرهونة بتوحيد الجهود وتعميق أواصر التنسيق، وضرورة تعزيز القطاع الخاص، والتبادل التجاري يمثل أحد محاور التكامل الاقتصادي بين الدول العربية.
ويذهب البعض إلى أن قمة بغداد تملك القدرة على تدشين لحظة عربية مختلفة، بمقاربة الأفكار والمشاريع، لا في السياسة والأمن فقط، بل في إعادة صياغة السردية السياسية العربية، من دول تكافح للبقاء إلى دول تشارك في صياغة النظام العالمي الجديد، وتتجاوز دور “إطفائي الحرائق” في غزة والسودان واليمن وليبيا وسوريا والصومال ولبنان.
ويحذر هؤلاء، ومنهم الكاتب إبراهيم العبادي في جريدة الصباح العراقية، "أن حرائق العالم العربي ستظل مشتعلة ما دامت لغة السياسة لدينا تقوم على قاعدة المغالبة السلطوية لا الشراكة وتقاسم المنافع، وما لم يدرك العرب مفترق الطرق هذا، فإن المستقبل لن يكون مختلفًا عن الحاضر الراهن".
ويبقى أن النظام العالمي يعاد تشكيله، كما أن النظام الإقليمي العربي يتم محاولة إعادة صياغته، وهناك تداخل واشتباك بينهما، وفي هذه المرحلة شديدة الدقة ثمة عناصر جديدة قديمة باتت تكتسب قدرًا كبيرًا من القوة والتأثير في عملية إعادة النظام الدولي، ومن ثم النظام الإقليمي، إنها عملية تفوّق العلم والمعرفة والثروة والقوة ليس فقط بمفهوم القوة الشاملة، بل بمنطق الإستراتيجيات العالمية، ولم تعد كافية التحالفات العسكرية وحدها، بل ضرورة التناغم في الرؤية الاقتصادية، والشراكة في سلاسل التوريد وتحمل المسئولية الأمنية لضمان استقرار الأسواق.
وبات على الأرجح أن الساحة الدولية تواجه هذه التحولات الكبرى، وغالبية الحكومات محاصرة بزمن "اللا يقين"، وتقلب التحالفات، وطغيان الشراكات قصيرة الأجل ومحدودة الهدف، ووسط هذا يبحث المواطن العادي عن خلاص من حصاره الخانق بأزمات اقتصادية، وتهديدات أمنية، وأصبح الطلب شديدًا على من يبيع الأمل في زمن الانكسار، ويدغدغ المشاعر الجامحة، ويبشر بعظمة غابت، ومن ثم كانت "أمريكا أولًا" إرهاص مرحلة أزمة وعنوان مرحلة، وعالمنا العربي ليس ببعيد.
وأغلب الظن أن المنطقة تحتاج "لأساليب جديدة" ورؤى مختلفة لا تكون مسكونة بالمخاوف، بل مدفوعة وقادرة على الإبداع لانتهاز نافذة الفرص، وتتجنب سياسات عدمية وتتفادى أن يتم تدمير مجتمعاتها بفعل التدخل الخارجي، وأن تحدث منظومة الأفكار والوعي بما يؤهل عالمنا العربي للدخول في الزمن الجديد.