أعجبني كثيرًا ما حدث ويحدث فى السعودية.. وأعجبتني تلك السياسة التي استطاعت بها المملكة أن تثبت ذاتها إقليمياً وعالمياً فى غضون سنوات قليلة، حتي باتت محط أنظار العالم. وكيف أنها شقت طريقها نحو عالم الكبار المؤثرين في السياسة العالمية من خلال القوى الناعمة، وكنتيجة لسياسة غير نفطية بالمرة، بل استثمروا فى الطاقات السعودية فى مختلف مجالات الثقافة والرياضة والفن والإعلام والمعمار..
أصبح النموذج السعودي مثلا يحتذى لمن يجيد قراءة المشهد الإقليمي، وقد آذن بالدخول فى حقبة جديدة تتغير فيها خريطة الشراكات والتحالفات والقوى الفاعلة. إننا اليوم والغد نشهد تحولاً كبيراً يؤكد أنهم قوم نهضوا فأسسوا لمدينة "نيوم" وفق أحدث طراز معماري وتكنولوجي.
حقبة جديدة
ليست المرة الأولي التي يشارك فيها الرئيس الأمريكي ترامب في قمة خليجية، وإن كانت القمة هذه المرة ذات مغزى مختلف. فهي تدشن لمرحلة جديدة للمملكة وهي تتزعم قيادة مجلس التعاون الخليجي فى شراكتها الجديدة مع أمريكا زعيمة العالم الحديث حتى إشعار آخر!
فى 2017 شارك ترامب فى قمة خليجية جمعت بينه وبين قادة مجلس التعاون الخليجي، وها هو الآن يشارك فى نفس القمة 2025 بروح جديدة وبمشاركة رئيس سوريا الجديد أحمد الشرع؛ إنها قمة ذات طابع مختلف وأهداف أعظم ومدلولات جديدة. أهمها أن المملكة العربية السعودية أصبحت تنفرد بدور سياسي عظيم يؤهلها لقيادة الحراك السياسي والدبلوماسي فى مواجهة أطماع إيران فى المنطقة، لاسيما وقد انسحبت قوة الأخيرة فى أكثر من موطن.
القمة جمعت بين قادة وممثلي دول مجلس التعاون الخليجي: (السعودية والإمارات والبحرين وقطر والكويت وسلطنة عمان)، وسبق حضور هؤلاء رئيس سوريا أحمد الشرع، ليجمع بينه وبين ولي عهد السعودية الأمير محمد بن سلمان ورئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب اجتماع مهم وضع النقاط فوق الحروف، وليأتي الإعلان المفاجئ عقب الاجتماع بأن أمريكا قد رفعت العقوبات الاقتصادية عن سوريا؛ إيذاناً بدخول دمشق فى مرحلة جديدة لإعادة البناء من كافة النواحي، وهي تضع يدها فى يد السعودية وأمريكا وكافة دول الخليج!
القمة حضرها أمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد الجابر الصباح، وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وولي عهد أبوظبي خالد بن محمد بن زايد، والعاهل البحريني حمد بن عيسى، ونائب رئيس الوزراء العماني أسعد بن طارق آل سعيد.
جاء فى أعقاب القمة التي تناولت خطابات ذات مرامي وأهداف سياسية فى مجملها، وناقشت مختلف قضايا السياسة والأمن فى المنطقة، منتدي اقتصادي واستثماري جاء تحت عنوان عريض هو: "منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي"، وهو يأتي فى إطار شراكات اقتصادية كثيرة بين المملكة وعدد من الدول في أوروبا وآسيا كفرنسا واليابان واليونان وإيطاليا، إلا أن كل اتفاقيات السعودية السابقة لا توازي ما لهذا المنتدى من أهمية وزخم.
استثمارات مليارية
ما حدث فى منتدى الاستثمار السعودي الأمريكي من اتفاقيات وصفقات ضخمة غير مسبوقة أسس لمرحلة جديدة من الشراكة بين أمريكا والمملكة. لقد أقيم المنتدى يوم الإثنين 13 مايو، في مركز الملك عبدالعزيز الدولي للمؤتمرات في الرياض، وهو أحد الصروح التي أقيمت حديثاً ضمن خطط التطوير والتحديث العمراني في مختلف مناطق المملكة.
وجمع المنتدى، الذي تحدث فيه ترامب بخطاب استثنائي، بين عدد من أهم الشخصيات الاقتصادية من البلدين، فمن الجانب السعودي: وزير الاستثمار خالد الفالح، ووزير الاقتصاد والتخطيط فيصل الإبراهيم، ومحافظ البنك المركزي السعودي فهد المبارك، ورئيسة مجلس إدارة السوق المالية السعودية سارة السحيمي.
في المقابل ضم الوفد الأمريكي كبار رموز الاقتصاد الأمريكي ورؤساء كبريات الشركات مثل جوجل وأوبر وبلاك ستون، وأبرز هؤلاء: "إيلون ماسك" رئيس شركتي تسلا وسبيس إكس، و"سام ألتمان" رئيس شركة أوبن آي، و"جين فريزر" رئيسة شركة سيتي جروب، و"جنسن هوانج" رئيس شركة نفيديا.
وأثمر المنتدى عدة اتفاقيات اقتصادية مليارية، إذ أعلنت السعودية عن ضخ استثمارات تصل إلى 600 مليار دولار، مع إمكانية رفع الرقم ليصل إلى تريليون دولار خلال الفترة المقبلة. وتمثلت أبرز ملامح الاستثمارات السعودية فى الولايات المتحدة في: صفقات دفاعية ضخمة بلغت قيمتها نحو 142 مليار دولار؛ وهي الأكبر في تاريخ صفقات الأسلحة بين البلدين، واستثمارات في الذكاء الاصطناعي مع شركة نفيديا بهدف تطوير البنية الرقمية للسعودية، بالإضافة لاستثمارات في البنية التحتية والطاقة المتجددة.
إعادة رسم الخارطة
الخريطة الاقتصادية يعاد رسمها الآن. وتشارك السعودية فى رسم ملامحها من خلال مشاريع طموحة مستمرة منذ سنوات فى إطار رؤية السعودية "2030"؛ تلك الرؤية التي قطعت السعودية فيها شوطًا طويلًا، أثمر ما نراه الآن من شراكات اقتصادية هائلة.
منجزات أكثر من أن تحصى في مجرد مقال، حققتها السياسة السعودية الجديدة التي نبذت الحروب والصراعات خلف ظهرها والتفتت لازدهار المستقبل الاقتصادي للبلاد؛ تماماً كالصين فى رؤيتها الثاقبة وحراكها الاقتصادي الطموح.
المدن الذكية أولى تلك الأفكار التي طرحتها المملكة على طاولة المشروعات، وفي مقدمتها مشروع "نيوم" الذي اعتمد في رؤيته السباقة على الذكاء الاصطناعي واستخدام الطاقة النظيفة، وهي التي استدعى من أجلها كبرى الشركات الأمريكية فى التكنولوجيا والطاقة المتجددة لتؤسس لهذه المدن الحديثة وفق أفضل وأحدث ما وصلت إليه التقنيات.
حتى على مستوى القوى الناعمة والتطوير فى مجالات الثقافة والرياضة والسياحة والإعلام بدأت السعودية فى جني بعض ثمار ما حققته من إنجازات فى تلك المجالات وغيرها؛ بدءًا من تطوير متاحف الدرعية والعلا باستخدام تقنيات الواقع الافتراضي، ومبادرة "حفظ اللغة العربية بالذكاء الاصطناعي"، ومشاريع التكنولوجيا الخضراء وتطوير استخدامات الطاقة الشمسية وافتتاح دور السينما، ومهرجان الرياض، وموسم جدة، ومشروعات تطوير الرياضة وتطعيم فرق كرة القدم بنجوم عالميين، بهدف وضع الدوري السعودي جنبًا إلى جنب مع الدوري الأوروبي.. كلها جهود ساهمت في تغيير نظرة العالم تجاه المملكة التي باتت ذات دور أعظم دبوماسيًا وسياسيًا واقتصاديًا.
الهدف من البداية كان الخروج من بوتقة الاعتماد على النفط كمصدر قوة اقتصادية إلى رحابة التنوع الاقتصادي والاستثماري فى مجالات حديثة، معتمدة فى أغلب قوامها على قوة بشرية من عقول وأيادي السعوديين أنفسهم، وهو ما حققت فيه السعودية نجاحاً فاق التوقعات.
الأرقام تتحدث
السعودية اليوم قوة اقتصادية كبيرة يسعى الجميع للشراكة معها، ولهذا تعددت المنتديات الاقتصادية التي تضع السعودية طرفاً وكبرى الدول الأوروبية والآسيوية في الطرف الآخر؛ فوفق تقديرات عام 2023 بلغ إجمالي الناتج المحلي للسعودية 2.2 تريليون دولار، وهي إحدى الدول القلائل التي لديها ناتج يفوق تريليون دولار. ويبلغ متوسط دخل الفرد أكثر من 32 ألف دولار.
السعودية اليوم عضو فى عدة منظمات دولية سياسية واقتصادية أهمها: مجموعة العشرين ومنظمة التجارة العالمية ومنظمة التعاون الإسلامي ومنظمة التعاون الخليجي، وعضو مؤسس لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم "اليونسكو" وعضو فى مجلسها التنفيذي منذ 2019.، وبالطبع هي عضو في منظمة الدول المصدرة للنفط، باعتبارها أكبر مصدر للنفط، وصاحبة ثاني أكبر احتياطي منه.
المشروعات التي نفذتها السعودية منذ الإعلان عن رؤيتها "2030" الطموحة، زادت عن 80 مشروعاً تصل تكلفة كل مشروع بين 2.3 مليار ريال: 20 مليار ريال! تنوعت بين مشروعات معمارية وبنى تحتية ومواصلات ومشروعات ثقافية وسياحية، ومنها مشروعات خدمة الحجاج والمعتمرين، وتوسعة الحرم المكي وتزويده بالخدمات التي تستوعب الأعداد المتزايدة من الحجاج والمعتمرين كل عام.
وما زال نهر الإنجازات يتدفق..
[email protected]