استمرت قرية عمال دير المدينة "ست ماعت" في آداء مهامها على أكمل وجه ما يقرب من أربعمائة عام في حالة من الاستقرار النسبى، ثم بدأ التدهور يصيب القرية خلال نهاية عصر الأسرة العشرين؛ نتيجة لاضطراب أمور الدولة السياسية والاقتصادية، وتعرض بعض المقابر الملكية للسرقة والتعديات، وقد بقي مجموعة من العمال في مدينة هابو.
موضوعات مقترحة
وكان أهم مظاهر التدهور والاضطراب الذى حل بالقرية هي سلسلة الاحتجاجات التي يرجع تاريخها إلى السنة التاسعة والعشرين من حكم "رمسيس الثالث" أي في آخر عامين من حكمه، وتم تدوين تفاصيل هذه الإضرابات بمنتهى الدقة والتفاصيل على "بردية هاريس" و"بردية تورين".
قرية دير المدينة
بردية تورين
في حين ينسب الكثيرون أن أول مطالبات للعمال بتحسين أوضاعهم المالية والحقوقية إلى أستراليا ومدينة شيكاغو الأمريكية بين عامي (1856-1886م)، نجد أن قدماء المصريين سبقوا شعوب العالم في المطالبة بحقوق العمال، ويُنسب أول احتجاج مُنظم عرفه التاريخ إلى عمال قرية دير المدينة؛ وذلك بعد الفشل في إمداد هؤلاء العمال بمخصصاتهم الشهرية، وربما تعود أسباب تلك الأزمة الاقتصادية التي كانت تعانيها البلاد لفساد كبار الموظفين والكهنة، أو بسبب النزاعات السياسية في تلك الفترة، وذهب البعض إلى أن الفشل في دفع مخصصات العمال يرجع إلى وباء اجتاح البلد، الأمر الذي نتج عنه بعض التدهور في أحوال العمال.
وهكذا تضافرت الأسباب الطبيعية والاقتصادية والاجتماعية لترسم لوحة واضحة للمشهد العمالي في تلك الفترة.
قرية دير المدينة
وأيًا ما كان السبب، فالنتيجة واحدة، لقد أصبح عمال الجبانة جائعين ولم تصلهم الغلال، لم يكن تأخير المرتبات ثمة أساسية بين الدولة والعمال، فلم يتم العثور على أي وثيقة تتحدث عن شكاوى من التعينات أو تأخر رواتب العمال إلا في أواخر عهد الملك "رمسيس الثالث"، ولكن لوحظ بوضوح خلال العام التاسع والعشرين من حكمه حدوث العديد من الاحتجاجات العمالية؛ بسبب تأخر صرف مقررات العمال أكثر من مرة، فقد كان من المقرر صرف حصص العمال في يوم 28 من كل شهر، وفى شهر (برمهات) صرفت متأخرة يوم واحد، وفى شهر (برمودة) لم يحصلوا على مخصصاتهم على الإطلاق فاحتج العمال على ذلك، لكنهم كانوا متحضرين إلى أبعد الحدود في رفضهم، حيث (لم يخرجوا من منازلهم).
وفى 28 من شهر (بشنس) تم صرف جميع مستحقاتهم من الذرة كاملة، ولكن في 28 (بؤونة) لم تتوفر الذرة ولم يتم سوى توفير 100 قطعة خشبية، فذهب العمال إلى عمدة طيبة مطالبين بمخصصاتهم، وفى اليوم التالي ذهبوا إلى والى طيبة وكبير كهنة أمون وتذمروا وقدموا مطالبهم، وكانت النتيجة أن وافق الوالي على طلباتهم، ودعا الكاتب للمثول أمامه وقال له:"هذه الذرة الخاصة بالحكومة تُعطى حصص لعمال المقبرة"، وهكذا تم إصلاح المشكلة، وبالفعل في نهاية الشهر احتوى دفتر يوميات العمال على هذه الملاحظات: "تسلمنا اليوم حصتنا من الذرة، وأعطينا حاملي المروحة صندوقين ولوحة كتابة"، والواضح أن سبب الهدية التي أعطاها العمال لهم لانحيازهم لصفوف العمال، وكان لهم دور في مراعاة مطالب العمال.
قرية دير المدينة
وفى نفس العام التاسع والعشرين من حكم الملك رمسيس الثالث، بدأت الأمور في التدهور بشكل أسوأ، فكانت حالة العمال سيئة للغاية ومؤسفة فهم كانوا لا يحصلون على مخصصاتهم إلا بعد عناء، وفى هذه المرة تركوا المدينة ومعهم زوجاتهم وأولادهم وهددوا بعدم العودة، إلا إذا تم تحقيق مطالبهم وصرف رواتبهم، كما أن الوثائق أوضحت أن هذه الحالة السيئة البائسة للعمال استمرت حوالى ستة أشهر (أي من شهر بؤونة حتى شهر كيهك)، ثم مر تسعة أيام من شهر (طوبة) دون أن يتسلم العمال مخصصاتهم، وهذا ما أدى لتوقفهم عن العمل.
يبدو أن العمال قد أحسوا بأهمية اتخاذ موقف قوى ضد التأخر المتكرر في صرف مقرراتهم، وأيقنوا أن هذا الأسلوب في الضغط والشكوى يُقابل عادة بحل الأزمة وصرف مخصصاتهم، ففيعودون لأعمالهم ثم يعاودون الانقطاع بعد التأخير لمرة أخرى حتى يتم صرف مخصصاتهم.
قرية دير المدينة
لقد سجل التاريخ أول احتجاج للمطالبة بحقوق العمال، فى اليوم العاشر من شهر (أمشير)، حيث طاف العمال حول المعابد الجنائزية للملك "تحتمس الثالث" و"رمسيس الثاني/ الرامسيوم" لمدة أيام رافضين تأخر الأجور والرواتب، وبالفعل نجحت جهودهم فى ذلك اليوم و تسلموا مخصصاتهم فى اليوم الثالث عشر من شهر(أمشير) ثم عادوا إلى عملهم فى المقبرة بزوجاتهم وأولادهم، وعاد الهدوء السلام ولكنه لم يستمر طويلا فقط كان شهر واحدا فقط، نتيجة تردي الأوضاع المالية.
وفى الشهر السابع(برمهات) من العام الثلاثين من حكم الملك تكررت نفس الأزمة وتأخرت المقررات الخاصة بالعمال فتعالت أصواتهم بالشكوى مرة أخرى وتركوا دير المدينة واقاموا في طيبة، وعندما وصل لتهدئتهم ثلاثة من الرؤساء قال العامل "موسى بن ناخت": "أقسم بآمون، وأقسم بالحاكم الذى قوته أعظم من الموت أنه لن يعود"، قاصدًا عدم العودة إلى العمل.
قرية دير المدينة
ولا نعلم كيف انتهى أمر الاحتجاج هذه المرة، لقد أظهر العمال حبهم وتقديرهم للملك، الذين وصفوه "بمولانا الطيب الملك"، لكنهم كانوا يضمرون الكراهية لرؤسائهم في تحد ظاهر وكانوا يلوحون إلى حدوث جرائم ترتكب فى مدينة الأموات كسرقات المقابر.
فى اليوم الثامن والعشرين من شهر (برمودة) من نفس العام قام الوزير “تا" بالسفر إلى الجنوب (مكان إقامة العمال) ويبدو أنه رفض مواجهة العمال المتضربين فأرسل رئيس الشرطة «نب سمن بن ناحس» إلى ثلاثة من رؤساء العمال كانوا واقفين أمام حصن طيبة الغربية قال لهم: قال الوزير “إذا كان ينقص أي شيء، فلن أتوانى فى المجيء وإحضاره لكم"، أما عن قولكم «لا تأخذ منا مقرراتنا» فلماذا تقولون ذلك؟ ألم أعطيكم أكثر مما أعطاكم الوزراء الأخرين، وإذا كان قد حدث في الأمر شيء؛ وإن لم يكن هناك شيئاً وكانت شونة الغلال فارغة، فسوف أعطيكم كل ما أجده"، وأن الكاتب "حورى" سوف يعطى لكم نصف مقرراتكم، وسأتولى أنا توزيعها عليكم بنفسي".
قرية دير المدينة
ويُفهم من هذا النص أن العمال وجهوا تهمة الاختلاس والنهب والاستيلاء على مخصصاتهم إلى الوزير نفسه"ويبدو ذلك من جملة" وعندما تقولون لا تأخذ منا مقرراتنا" وهكذا تمادى العمال في مهاجمة الوزير الذين سبق وقالوا عنه فى إضرابهم الأول «اكتبوا الى الوزير الذي يتولى أمرنا حتى يعطينا ما نعيش به» ونفهم أيضا أن الوزير لم يواجه العمال بنفسه ربما خوفًا من المواجهة أو خوفًا من ردود أفعالهم تجاهه، بل أنه وعد بصرف نصف مقررات العمال، وهذا الوعد أيضاً لم يتحقق فلم يصرف لهم أكثر من كيسين من الحبوب مقرراً للشهر كاملا.
تكرر الأمر حيث عانى العمال مرة أخرى من الاحتياج والجوع والنقص فى الموارد؛ مما دفعهم للقيام باحتجاج آخر فى اليوم الثاني من شهر "بشنس" وبالفعل تم الاستجابة، وفى اليوم التالي تم تحويل كيسين من الحبوب كإمداد لشهر كامل، ومن الطبيعي أن هذا التخفيض الذى حل مخصصاتهم لم يكفيهم، كما كان يزيدهم غضبا، وعندئذ قال لهم رئيس العمال "انظروا سوف أخبركم، خذوا مقرراتكم ثم أذهبوا إلى الميناء ودعوا موظفوا الوزير «تا» يخبره بذلك".
قرية دير المدينة
وبالفعل عندما أنتهى "آمون نخت" من إعطائهم مخصصاتهم فذهبوا إلى الميناء تبعًا لما قاله لهم رئيسهم، ولكن عندما مروا بأول سور ذهب اليهم الكاتب "آمون نخت" وقال لهم: "لا تذهبوا الى الميناء لقد أعطيتكم كيسان من الحبوب في هذه الساعة، وأعادهم مرة أخرى إلى حيث جاءوا".
وهذه الاحتجاجات التي أعلنها العمال أحرجت الرؤساء بشدة، فقد قدم عمدة المدينة مساعدة والنجدة اللازمة للعمال الجائعين؛ وهذا ما جعل كبير كهنة آمون الذى تتكدس الغلال فى مخازنه يقدم شكوى ضد عمدة طيبة؛ لأنه أخذ من القرابين الخاصة بمعبد رمسيس الثاني كحصة لإطعام العمال المضربين، ووصف عمله بأنه "جريمة كبرى، تلك التي فعلها".
معبد حتحور شمال قرية دير المدينة
لم توفر البردية أكثر من تلك المعلومات السابق ذكرها، ولا يُعرف كيف انتهت مشكلة هذا الجيل من العمال والموظفين... هل استطاعوا أن ينظموا أمورهم ويحلوا مشكلاتهم أم فشلوا؟، وعلى ما يبدو أن الأمور لم تستقر استقرارًا تامًا، فمع الأسف استمرت معاناة عمال الجبانة من أجل الحصول على مخصصاتهم وأجورهم وأصبحت الاحتجاجات التي لن تنقطع بعد ذلك هي الطريقة لحصولهم على حقوقهم.
وبعد أربعين عاما من تاريخ هذه الأحداث أي فى عهد الملك "رمسيس التاسع" وتحديداً فى السنة الثالثة عشر من حكمه، نقرأ فى التقارير اليومية لعمال القرية فى هذه الفترة التي قام بتحريرها أحد الكتبة المكلفين بصرف المخصصات للعمال "أن العمال رفضوا القيام بالعمل لأيام متتالية؛ بسبب تأخر مخصصاتهم خمسة وتسعين يوما، وذكرت أيضاً هذه اليوميات أن بعد ذلك بأربع سنوات أستغل العمال فرصة إحدى الزيارات الرسمية للجبانة وقدموا شكواهم قائلين" نحن ضعاف وجياع لأننا لم نأخذ المرتبات التي أعطاها لنا الملك"، وأقر كلامهم الوزير ورئيس الخزانة والكهنة وساقى الملك قائلين:"رجال فرقة الجبانة على حق"، في اعتراف من الدولة بحقوق العمال.
أطلال معبد آمون بقرية دير المدينة
وبحلول العام الثالث من حكم الملك "رمسيس العاشر" أي بعد خمسين سنة من أول احتجاج تذكر اليوميات أن الوزير طلب من رؤساء العمال في الجبانة إرسال رجال لنقل ملابس الملك، ولكن العمال رفضوا الاستجابة لأنهم كانوا في هذا الوقت في حالة غضب، وقد أجاب عامل لرسول الوزير قائلا "دع الوزير نفسه يحمل ملابس الملك نفر كار رع وكذلك خشب الأرز"، فى نفس العام جميع فرق العمال توقفت عن العمل فى الجبانة ، وعبروا النهر متجهين إلى المدينة ليتقدموا بشكوى إلى كبار الموظفين، وقال كبير كهنة آمون أنه ليس المختص بصرف مخصصاتهم ليدفع عنهم الجوع، وأن هذه المخصصات يجب أن تصرف لهم من رؤسائهم المباشرين، ولكن العمال قضوا الليل فى مكتب رئيس الكهنة ليقدموا شكواهم فى الصباح، ودعي كبار الموظفين سكرتير الوزير ونائب وزير الشونة الملكية وطلبوا منهم أن يذهبا إلى غلال الوزير وأن يعطوا لرجال الجبانة مخصصاتهم منها»، وقد قام العمال بإهداء صندوقين وأدوات كتابة الى اثنين من كبار الموظفين ربما عرفانًا بالجميل لدورهم في دعمهم.
لا يوجد الكثير من المعلومات حول أوضاع العمال فيما بعد، ولكن يبدو أنه بنهاية الأسرة العشرين ومن أجل الحفاظ على الأمن وإخماد تلك الاحتجاجات تم نقل العمال إلى مدينة هابو، ويبدو أن كان لهم دور في إعداد الخبيئة الملكية خلال عصر الأسرة الحادية والعشرين.
رنا التونسي
باحث دكتوراه فى التاريخ والأثار المصرية القديمة بكلية الآداب جامعة طنطا
رئيس لجنة البحوث والدرسات الآثرية بحملة الدفاع عن الحضارة، نائب رئيس الحملة
رنا التونسي باحث دكتوراه بقسم الآثار بكلية الآداب جامعة طنطا