عادات سيئة، نعم سيئة تدور مع واقعنا المصري المعاصر وجودًا، ونتمنى أن تنعدم؛ بمعنى تزداد حدتها وقوة ظهورها حينًا، وتخبو جذوتها حينًا آخر، تزداد وتتوسع وتنتشر ويستشري خطرها في المجتمع إذا أحياها البعض ومارسها، والحجة غير المنطقية أنه من ذوي النفوذ والمنصب والجاه ومن أصحاب رؤوس الأموال.
فيأخذ هو الخطوة الأولى ويأخذ اللقطة وينتشر الخبر كما تنتشر النيران في الهشيم -عبر منصات وسائل التواصل الاجتماعي- فيبدأ التعميم فينتقل الأمر من الخصوصية الفردية إلى الجمعية، والحجة لماذا هو يفعل ذلك ونحن لا نفعل؟!
هل ميته الذي توفي أفضل من ميتنا، هل منصبه أفضل منصبنا؟ لكن الحقيقة خلاف ذلك تمامًا، الحقيقة شبه عارية عن الصحة، فقد يستدين من أجل أن يقلد تقليدًا أعمى، لا إكرامًا لميته أو تكريمًا لولده أو ابنته اللذين يقيم لهما حفل زفاف.
وقد تخبو جذوتها خبوءًا مؤقتًا، كيف؟ عن طريق الناصحين الذين يقولون إن هذه المغالاة مكروهة، وهناك من علماء الدين من يفتي بحرمتها؛ لما تحدثه مثل هذه الأفاعيل من تقسيم للمجتمع إلى طوائف وطبقات، فبالضرورة الفقير لا يريد أن يظهر فقره فيستدين، والغني يريد أن يظل على قمة الهرم السيادي، ومن هنا يأتي التحريم، فتخبو الجذوة خبوءًا مؤقتًا دونما قضاء على مثل هذه الظواهر قضاءً تامًا.
لكن دعونا نتعقل المسألة بموضوعية ولنعرض ذلك على عقولنا ولنستفتي قلوبنا أيضًا، ولنبدأ بما يحدث في سرادقات العزاء، فراشة تملأ الشوارع، ولا أكون مبالغًا إذا كان السرادق مقامًا في مناطق شعبية، تغلق الشوارع الرئيسية، وتمتلئ الحارات الجانبية بالكراسي، فضلا عن مكبرات الصوت العملاقة.
ويصطف أهل الميت ومجاملوهم على الجانبين لاستقبال المعزين وتبادل الأحضان والسلامات، والقارئ يتلو كتاب الله تعالى لا يهمه من ينصت ويستمع للقرآن الكريم، المهم يؤدي مهمته ليحصل على أجره الذي اتفق عليه، والذي قد يصل إلى آلاف الجنيهات.
المشهد برمته لا احترام لقرآن ولا حرمة ميت، الجميع جالس يلتفت من حضر من علية القوم، البعض يشرب القهوة ويدخن السجائر، والبعض الآخر يحكون مع بعضهم البعض ممسكين بسيرة الميت وأهله.
هل هذا يليق بحرمة الميت؟! هل هذا يليق باحترام القرآن الكريم؟! وللأسف قد يتلو الشيخ قوله تعالى (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)، فلا إنصات، ومن ثم فلن تتنزل علينا الرحمات، هذا بالنسبة لسرادقات العزاء في الأحياء الشعبية.
أما سرادقات العزاء التي تقام في دور مناسبات المساجد الكبرى لمشاهير القوم، فحدث ولا حرج، تمارس فيها أفاعيل إبليسية لا ترضي الله تعالى، وإنما ترضي الشيطان، أحضان، اختلاط بين النساء والرجال، أحضان وقبلات، والغريب أن القارئ يتلو كتاب الله!! فأي إسفاف وأي فسوق وأي فجور هذا.
السؤال الذي نطرحه على عقولنا: هل ديننا أمرنا بذلك، هل ديننا أمرنا بمثل هذه المغالاة التي نراها ونشاهدها؟! هل فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام؟!
أليس من المنطق والعقل أن توفر كل هذه الأموال التي تنفق وتخرج صدقة جارية على روح المتوفى، من باب إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث، منها صدقة جارية ما أحوجه إليها تنير له قبره وتؤنس وحدته ووحشته.
أم هي بهرجة الدنيا وزينتها ومفاتنها؟! والأدهى والأمر أن الميت قد يكون فقيرًا تاركًا بعض المال الزهيد لأولاده الأيتام، فينفقه أقاربه على سرادق عزائه من أجل "الفشخرة"، وأن يقال فلان عندما مات كان سرادق عزائه ملكيًا!! فما لكم كيف تحكمون؟!
أما بالنسبة للمغالاة في الأفراح وحفلات الزفاف، فهل تعقلنا قليلًا وتريثنا وحكمنا عقولنا قبل أن تتحكم فينا أهواؤنا وميولنا وشهواتنا؟! لماذا المغالاة في المهور؟! لماذا المغالاة في الشبكة؟! لماذا المغالاة في التجهيزات؟! لماذا المغالاة في حجز قاعة الزفاف؟! لماذا كل هذا العبث الذي قد يؤدي بخراب الزواج من أساسه إذا لم يحجز العريس قاعة مشهورة، أو قاعة في فندق سبع نجوم؟!
لماذا كل هذه التكاليف الباهظة في ظل أزمة اقتصادية طاحنة، هل يستدين الشاب حتى يتزوج؟! هل يستدين والد العروس أو يختلس حتى يستطيع الوفاء بجهاز ابنته؟!
أين نحن من أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ)، و(أَعْظَمُ النِّسَاءِ بَرَكَةً أَيْسَرُهُنَّ مَئُونَةً).
وكعادتي أنا لا أعمم أو أطلق الأحكام على عواهنها، وإنما هي ظواهر واقعة وحادثة بالفعل في مجتمعنا المصري، في غالبيته العظمى، خصوصًا في الصعيد والأرياف، وحتى في القاهرة.
لكن على الجانب الآخر هناك قلة قليلة من تلتزم الضوابط الشرعية؛ سواء في الموت أو في الأفراح، وتتقي الله تعالى، عاملة بقوله تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)
* أستاذ الفلسفة بآداب حلوان