تعد قرية دير المدينة واحدة من أهم قرى العمال في مصر القديمة، وتحديدًا في عصر الدولة الحديثة، حيث رجّح البعض أن مؤسس هذه القرية هو "أمنحتب الأول"، ابن الملك أحمس طارد الهكسوس، فيما رجّح أخرون أن مؤسسها هو الملك "تحتمس الأول"، لكن يبدو أن لأمنحتب الأول مكانة خاصة في نفوسهم، وكان فضله على العمال كبيراً حتى قدسوه وعبدوه هو ووالدته الملكة "أحمس نفرتارى"، وهو أول من دُفن بوادي الملوك.
موضوعات مقترحة
و"ديرالمدينة " اسم حديث مشتق من اسم الديرالذي أقامه رهبان مدينة "جيمة" في القرن الخامس الميلادي داخل معبد المدينة القديمة، وكان شفيعه هو القديس "إيزيدور"، ولكنها عُرفت فى النصوص المصرية القديمة باسم "ست-ماعت" وتعنى "مكان الحق".
قرية دير المدينة
مكان القرية
تقع هذه القرية في واد ضيق بين عدد من المعابد الجنائزية، بين قرنة مرعي والجروف الغربية لطيبة، وبذلك يحدها من الشمال جبانة شيخ عبد القرنة، ومن الجنوب قرنة مرمي، ويحدها من الغرب وادي الملكات، ومن الشرق معبد الرامسيوم بمدينة هابو، كما أنه لم ولم يتبق من القرية سوي الأساسات الحجرية التي أوضحت التخطيط المعماري للقرية والمنازل وبذلك تعتبر القرية في موقع منعزل عن باقي مساكن العامة بالقرب من مواقع العمل لتسهيل انتقال العمال من السكن إلى الوادي أو لسرية أماكن مقابر الملوك، تم تأسيسها لتكون مركزًا لتجمع الحرفيين والعمال المهرةالذين عملوا في حفر وتزيين المقابر الملكية خلال عصرالدولة الحديثة؛ وذلك لاتجاه ملوك هذه الفترةالتخلي عن عادة الدفن في "أهرامات" ربما يرجع ذلك لانتشار سرقات المقابر الملكية (الأهرامات)، وبشكل رئيسي كان عمال المحاجر والنحاتين والرسامين النواة الرئيسية لهذه الأعمال؛ إضافة إلى العديد من أصحاب الحرف الأخرى مثل النجارين، وأيضًا الخدم، والحراس، وحمالو المياه، ورعاة البقر، والصيادون،والغسالون، والعديد من أصحاب المهن المرموقة مثل: القضاة، والكتبة والأطباء.
قرية دير المدينة
قبلة العمال والفنانين
كان العمل في حفر المقابر يتطلب جُهدًا عظيمًا، إلى جانب عدد كبير من العمال من مختلف الفئات، ما بين قاطع الأحجار، والرسام، والنحات، وأهم الصفات التي تميز بها هؤلاء العمال هي موهبتهم فلم يكونوا مجرد عمال حفر زنحاتين ورسامين فقط، بل كانوا مبدعين.
عاش هؤلاء العمال وأسرهم في حياة منعزلة عن المجتمع المصري في تجمع مغلق بالقرية، خلف تل رملي يبعد عن أقرب أرض خضراء بنحو ميل، فكانوا يصعدون التل خلف قريتهم تحت الشمس الحارقة ليعملوا على عمق كبير تحت الأرض في واد لا يوجد به أي أثر للحياة الطبيعية سمى الآن "وادي الملوك"، فكان هناك طريق من القرية يخترق الجبل حتى ينتهي إلى وادي الملوك حيث يعمل العمال، ويوجد في الطريق محطة يتوقف عندها العمال لينالوا قسطاً من الراحة فى عبارة عن أكواخ بنيت من الحجر.
قرية دير المدينة
صانعة أمجاد طيبة ووادي الملوك
وعمل هؤلاء العمال جميعًا تحت قيادة عمدة طيبة الغربية الذي كان مسئولاً أمام وزير الوجه القبلي عن كل ما يخص مجتمع العمال هذا، كما أنه كان مسئولاً أيضاً بمدهم بالعدد والادوات اللازمة لإتمام عملهم كما أن الدولة كانت مسئولة عن إمدادهم بالمواد الغذائية، كما خصصت لهم قوات لحفظ النظام ساهرة على رعاية القرية بأكملها ولا تغفل عنه، ورجال من الشرطة، كانوا قد كلفوا أيضا بحماية القرية وحراسة العمال أثناء انتقالهم، وأيضا لحماية العمال المكلفين بإمداد القرية بالماء ذهاباً وإياباً مع حميرهم إلى الرامسيوم أو مدينة هابو، فيعبرون تحت أنظار رجال الشرطة النوبيين المكلفين بحراسة القرية .
تعد الأدلة والبقايا الأثرية الخاصة بهذه القرية من عصر الأسرة الثامنة عشرة شحيحة جدًا على الرغم من أنه تم تأسيسها في تلك الأسرة، وربما يرجع السبب في ذلك إلى انتقال العمال والحرفيين إلى بناء العاصمة الجديدة "آخت-أتون" أثناء فترة حكم الملك إخناتون، الذي قام بنقل العاصمة إلى تل العمارنة، ولكن سرعان ما عادت الروح للقرية من جديد خلال عهد توت عنخ آمون وخلفاؤه حيث ثم العثور على مقابرهم في وادي الملوك.
قرية دير المدينة
العصر الذهبي لدير المدينة
تعد نهاية عصر الأسرة الثامنة عشر، وعصر الرعامسة العصر الذهبي لقرية دير المدينة، فواحدة من أكمل المقابر وأجملها التي أذهلت العالم "توت عنخ آمن" يرجع لعصر الأسرة الثامنة عشر، والعديد من المقابر ذات الزخارف الدينية العظيمة، والبرديات، الأوستراكات، والوثائق الخاصة بأدق تفاصيل بنزاعات العمال، وعقودهم، وحياتهم، ساعدت على فهم تنظيم هذا المجتمع العمالي، كما أن دراسة البرديات الخاصة بدير المدينة تعطينا صورة على قدر كبير من الدقة عن الحياة الخاصة لهذا المجتمع وأسلوب انتقال الثقافة الكلاسيكية داخل القرية.
كان العمال منظمون تنظيمًا دقيقًا، فكان الشهر يتكون من ثلاثين يوم عمل مقسمة لفترات كل فترة عشرة أيام، للعامل ثمانية أيام من العمل الفعلي ويومان راحة، وإجازات استثنائية بمناسبة الأعياد المهمة وأربعة أيام خاصة للمواكب الملكية الكبرى، كما أن هناك إجازات مرضية، وهناك لوح خشن الصنع من الحجر الجيري محفوظ الآن المتحف البريطاني كتبه كاتب الفريق يحتوى على أسماء عماله الثلاثة والأربعين، وأمام كل أسم أيام الشهر التي غابها عن العمل، بينما كتبت أعذار التخلف بالمداد الأحمر أمام كل تأخير.
قرية دير المدينة
أجور وامتيازات العمال
وخصصت الدولة لهم أجوراً ثابتة وسخية إلى حد كبير تدفع لهم مباشرة في نهاية كل شهر من مخازن الحبوب "خزينة الدولة"، ولم يختلف نظام حقوق عمال دير المدينة من مرتبات وأجور، وأجازات، ورعاية صحية، بنظام العمال في أي مكان آخر في مصر القديمة، كما أنه ابتداء من بداية عهد الرعامسة، كان يمكن للعمال أن يتملكوا منازلهم مقابل سداد الضرائب، كما كان يمكن للحرفيين التدرج في الوظيفة والترقي كما علمنا بحالة نحات أصبح كاتبا وأنهى حياته حامل مروحة على يمين الملك وهى ترقية مهمة.
وضمت قرية دير المدينة حوالي 50 مقبرة لعمال ومشرفي الحرفيين الذين قاموا ببناء المقابر الملكية في وادي الملوك والملكات خلال عصر الدولة الحديثة (الأسرات الثامنة عشرة والتاسعة عشرة والعشرين)، مثل سنجم (TT1)، إيبوى (TT217) ، باشيدو (TT3) تتميز هذه المقابر بزخارفها ونقوشها الفريدة التي تصور ومعتقداتهم الدينية، بالإضافة إلى مشاهد من الأساطير والطقوس الجنائزية.
وتضمنت قرية دير المدينة مجموعة معبدًا لعبادة المعبودة "حتحور"، وعددًا المقاصير الصغيرة خاصة بـ"المعبود آمون" و"المعبودة مرت سجر"، حيث كانت تتم عبادتهما من قبل العمال أنفسهم، وفى أعيادهم كان يتجمعون عندها للاحتفال بالقداس والمواكب.
بدأ التدهور يُصيب قرية دير المدينة خلال نهاية عصر الأسرة العشرين؛ نتيجة لاضطراب أمور الدولة السياسية والاقتصادية، وتعرض بعض المقابر الملكية للسرقة والتعديات، وقد بقي مجموعة من العمال في مدينة هابو، وكان لهم دور في إعداد الخبيئة الملكية خلال عصر الأسرة الحادية والعشرين.
رنا التونسي
باحث دكتوراه فى التاريخ والأثار المصرية القديمة بكلية الآداب جامعة طنطا
رئيس لجنة البحوث والدرسات الآثرية بحملة الدفاع عن الحضارة، نائب رئيس الحملة
معبد حتحور شمال القرية
أطلال معبد آمون بالقرية
رنا التونسي باحث دكتوراه بقسم الآثار بكلية الآداب جامعة طنطا