انتهت اليوم أزمة مشروع قانون تنظيم إصدار الفتوى الشرعية، المُقَدم من الحكومة، بعد موافقة مجلس النواب خلال الجلسة العامة برئاسة المستشار الدكتور حنفي جبالي، على مشروع القانون نهائيًا بعد تعديل بعض نصوصه استجابةً لمقترح الأزهر الشريف بعد أن كان قد أثار مشروع القانون خلال الأيام الماضية جدلًا واسعًا بعد أن رفض الأزهر الشريف المادة التي تمنح لجانًا بوزارة الأوقاف حق إصدار الفتاوى..
وكانت قد سادت حالةٌ من الترقب قبل ساعات من مناقشة وإقرار مشروع القانون اليوم تحت قبة البرلمان، خاصةً بعد موافقة اللجنة الدينية بمجلس النواب برئاسة الدكتور على جمعة نهائيًا على مشروع القانون بشأن تنظيم إصدار الفتوى الشرعية وإحالته للجنة العامة، والذي يهدف إلى تحديد الجهات المنوط بها إصدار الفتوى الشرعية على أن يكون ذلك من اختصاص هيئة كبار العلماء، ودار الإفتاء المصرية، ووزارة الأوقاف، فيما كان قد سجل الأزهر الشريف رفضه رسميًا على مشروع القانون، بحجة أن الفتوى من اختصاص الأزهر ودار الإفتاء فقط..
وفي الوقت نفسه ضرب الدكتور أسامة الأزهري وزير الأوقاف اليوم تحت قبة البرلمان مثالًا رائعًا للرقي والتحضر، ليؤكد مواقفه السابقة التي أعلنها بعد توليه مسئولية وزارة الأوقاف، التي قد سُررنا وتفاءلنا بها خيرًا خاصةً بعد حالة التقارب التي تمت بين المؤسسات الدينية لاسيما بعد تولي الأزهري مسئولية وزارة الأوقاف، وإقراره أنه سيعمل من خلال مظلة الأزهر الشريف المؤسسة الدينية والشرعية الكبرى والمرجعية الإسلامية.
وقد أعلن الأزهري موافقته على مقترحات الأزهر الشريف قائلًا: "في برلمان مصر العظيم وتحت قبته الموقرة وعلى مسمعٍ من العالم يشرفني أن أُبديَ القبول بكل ما أبدى به الأزهر الشريف في المادة الرابعة احترامًا وإجلالًا للأزهر الشريف، وأن وزارة الأوقاف كانت وستظل ابنةً بارةً للأزهر الشريف"، مضيفًا "وسيظل الأزهر القبلة العالمية الأولى والمنارة التي نهتدي بها".
كما وافق وزير الأوقاف أسامة الأزهري، على التعديلات المقدمة من وكيل الأزهر الشريف محمد الضويني، على المادة الرابعة من مشروع قانون تنظيم الفتوى الشرعية الذي ناقشها مجلس النواب، مؤكدًا أن الفتوى ستُمنح للمؤهلين فقط بعد اجتياز برامج تدريبية بشروطٍ يحددها الأزهر.
ومن وجهة نظري المتواضعة ما حدث يؤكد أن الأزهر سيظل منارةً للعلم والعلماء، يحتضن المواهب ويصقلها لخدمة الدين والوطن تحت رعاية فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف الذي يتبنى جميع وجهات النظر، خاصةً إذا كانت لصالح الدين والوطن.
وحقيقةً، فالخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية؛ لذا كان لابد من مناقشة القانون من قِبل مختصين وبهدوءٍ تامٍ، والخلاف على الأحقية بالفتوى بين الأزهر والأوقاف.
كان من الممكن تجاوزه وعدم حدوثه، خاصةً أن الأوقاف تؤكد أنها نسيجٌ من الأزهر و جزءٌ لا ينفصل عنه، ولن يتقدم للفتوى إلا من يتم تأهيله، وهذا "طلبٌ مشروعٌ"، فبهذا لا يوجد خلافٌ لو كان تم من خلال الأزهر الشريف منذ البداية، وبالتالي يتم تحديد من يكون له حق الفتوى بدلًا من فوضى الفتاوى وجعلها سداحًا مداحًا.
ولا ينكر شخصٌ أن تأهيل الأوقاف أئمة المساجد للإفتاء هو أمرٌ في غاية الأهمية، خاصةً أن المواطن البسيط عندما يعن عليه سؤال أو فتوى أول شخصٍ يبحث عنه هو إمام المسجد، ولا يتحمل عناء البحث عن لجان الفتوى ودار الإفتاء إلا لو كانت القضية كبيرةً.
علاوةً على أهمية استغلال قدرات أئمة الأوقاف، الذين هم في الأصل أبناء الأزهر الشريف بما يخدم الدين والوطن والمواطن ووضع حدٍ لأدعياء الفتوى دون علمٍ، وهذا ما حدث بالفعل.
وبلا شك فنحن الآن بحاجةٍ ملحةٍ لتنظيم الفتوى بشكل عام، وتحديد الفئات التي تتصدى للفتوى بشكل خاص، شريطة أن تنطبق على هذه الجهة ضوابط الإفتاء الشرعي، وهذا ما نص عليه مشروع القانون الجديد.
ولقد أرسلت «هيئة كبار العلماء» تَحفُظَهَا الرافض لمشروع القانون بصورته المطروحة قبل التعديل، انطلاقًا من الحرص على ضبط الشأن الديني، وإسناد الفتوى للمعنيين بها، وفقًا لأحكام القانون والدستور، وعدم التداخل في الاختصاصات المنصوص عليها دستوريًّا وقانونيًّا، وأن الأزهر الشريف يقوم بدوره في مجال الإفتاء من خلال ما يقرب من 250 لجنةً للفتوى رئيسيةً منتشرةً في مختلف المحافظات، وتعمل على تلبية احتياجات المواطنين الشرعية بكل مهنيةٍ واستقلاليةٍ، وتخضع للإشراف الكامل من قِبل الأزهر وهيئاته المختصة.
إننا لا ننكر أبدًا أنه خلال الفترة الماضية قد عانينا من الفتاوى الغريبة والشاذة، التي أحدثت بلبلةً في المجتمع، ونحن بدورنا نقول إنه لابد أن تتوافر للمفتي شروطٌ خاصةٌ؛ من أهمها العلم بكتاب الله تعالى وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بهما من علوم، والعلم بمواطن الإجماع والخلاف والمذاهب والآراء الفقهية والمعرفة التامة بأصول الفقه ومبادئه وقواعده ومقاصد الشريعة، والعلوم المساعدة مثل: النحو والصرف والبلاغة واللغة والمنطق.. وغيرها، وأن يكون المفتي على علمٍ وبصيرةٍ بأحكام الله وشرعه، حتى لا يدعي على الله بغير علمٍ، وأن تكون له نيةٌ صالحةٌ، وألا يكون ذلك عن رياءٍ ولا طلب سمعةٍ.
ونحن نعتقد، بلا شكٍ أو جدالٍ، أن مشروع القانون -كما قال الدكتور محمد الضويني وكيل الأزهر الشريف- سيحقق طفرةً غير مسبوقةٍ في مجال الفتوى وسيحقق انضباطًا حقيقيًا في الفتوى في الشارع المصري، وسيحقق ارتباطًا اجتماعيًا وأسريًا ملموسًا؛ لذا كان لابد من حسمه.
ومن وجهة نظري المتواضعة أن هذا المشروع إنما جُعل بالأساس لضبط الفتوى، فلابد لمن يتصدر للفتوى أن يكون مختصًا، وإلا سيتعرض للعقوبة والمساءلة القانونية، وهذا ينص عليه المشروع الجديد، وبلا ريبٍ هذا جيدٌ للغاية، ولكن التساؤل هنا كيف سيتم تنفيذ ذلك في ظل تعدد الهيئات والجهات المنوطة بالفتوى، وعدم تحديد آلية إصدار تراخيص الفتوى أو سحبها؟!
ونحن نقر: أن مواد القانون بها موادٌ جيدةٌ للغاية، خاصة فيما يخص التأكيد على دور هيئة كبار العلماء في الإفتاء بالقضايا العامة والنوازل والمستجدات، ومعها مجمع البحوث الإسلامية، ومركز الأزهر للفتوى، ودار الإفتاء، وكذلك توضيح دور وزارة الأوقاف، من خلال لجانها التي ستشكل للفتوى طبقًا للشروط والضوابط التي تم التوافق عليها مع الأزهر الشريف.
كما ينص القانون، على أن تأهيل أئمة الأوقاف ووعاظ مجمع البحوث الإسلامية سيتم من خلال برنامجٍ خاصٍ تشرف عليه هيئة كبار العلماء.
وحقيقةً فخروج مشروع القانون بهذه الصورة، وحالة التوافق التي تمت بين جميع الأطراف؛ الأزهر الشريف، ووزارة الأوقاف، ودار الإفتاء المصرية، تؤكد مدى الاحترام والتقدير المتبادل، والوعي والرقي بين هذه المؤسسات، التي نتعلم منها كيفية إدارة الحوار، والوسطية والاعتدال، وأن الحوار الهادئ هو أقرب طريقٍ للوصول للحل وعدم فكرة الانتصار للرأي الأوحد، وهذا ما أكده المستشار الدكتور حنفي الجبالي رئيس مجلس النواب، قائلًا: "إن التعاون الذي جمع بين الحكماء والعلماء والمخلصين يبرهن على روح التكامل التي تسود بين المؤسسات الدينية"، مؤكدًا أن الدولة المصرية مرجعيةٌ دينيةٌ راسخةٌ تمثل الوسطية والاعتدال، وتحرص على نشر الفكر المستنير.
ومن مميزات بعض مواد مشروع القانون؛ التأكيد على دور كل جهة واختصاصاتها، ونظمت المادة (5) الفصل في التعارض بين الفتاوى الشرعية؛ بأن جعلت لهيئة كبار العلماء الترجيح، حال تعارض الفتاوى الشرعية الصادرة من الجهات المعنية بالفتوى.
وإنني أرجو بعد خروج القانون وإقراره من مجلس النواب -بالشكل الذي حقق التوازن بين كافة المؤسسات الدينية منعًا للتضارب بالمستقبل- أن يتم تنفيذه كما ينبغي، خاصةً مع تحديد جهةٍ عليا يكون لها الحق في أن تحدد هل تجاوز المفتي في فتواه؟ دون غلقٍ لباب الاجتهاد المشروع، وأظن أنه لا توجد جهةٌ أعلى من هيئة كبار العلماء التي تضم نخبةً من العلماء الذين ليس عليهم غبارٌ، وعلى رأسهم فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف.
أعتقد، وكلي ثقةٌ في القيادة السياسية، أن القانون يحتاج إلى النظر في مادة عقوبة الحبس للصحفيين، والاكتفاء بعقوبة الغرامة فقط الواردة في المادة (8) بمشروع قانون تنظيم إصدار الفتوى، خاصةً أن الدستور ينص على عدم توقيع أي عقوباتٍ سالبةٍ للحرية في جرائم النشر، لما يُعد مخالفةً صريحةً لنص المادة (71) من الدستور المصري، وكذلك المادة (29) من قانون تنظيم الصحافة والإعلام رقم (180) لسنة (2018)، وهذا ما طالبت به نقابة الصحفيين المصرية.
وفق الله الجميع لما فيه صالح العباد والبلاد، ونحمد الله على انتهاء هذه الأزمة على خير بفضل جهود مؤسسات الدولة المختلفة، وجعل الله الأزهر الشريف والأوقاف ودار الإفتاء مناراتٍ تهدي الحائرين وتنير درب السائرين...