الصمت والحكمة كلمتان منسجمتان، بينهما تآلف فريد، بينهما روابط كثيرة وحكايات عديدة، معالم تقاربهما الواضحة لا يبصرها سوى هذا الإنسان الذي كان لأدق الأمور وأغلبها ناظرًا متفحصًا، متعقلًا متفهمًا لطبيعتها، فالعلاقة الوثيقة التي ربطت أحداهما بالأخرى، هي من سلطت الضوء على تناغمهما الذي غالبًا ما يوفر البيئة المثالية لميلاد جديد للعقل والحكمة.
الثرثارون في الغالب يدوسون بصخب أحاديثهم الفارغة على زهرات الحكمة في محيطهم، فهم يذوبون داخل بوتقة جهالتهم خاضعين، راضين بما يتعرضون له، يطوفون بأفكارهم السطحية التعيسة من حول أنفسهم، ظانين أنهم بذلك قد ملكوا نصيبهم من الحكمة، فإذا بهم يزدادون عنها ابتعادًا وغربة؛ إنهم يجهلون أن الحكمة لا تقبل بدخول جنودها معارك الصخب الدائرة بلا هدف، ترفض سجالًا دائرًا بين الخلاف والجدل.
غالبًا ما تكسو الحكماء ملامح نقاء النفس وهدوء السريرة، فهم المتدثرون بوعيهم الذي يمكنهم دائمًا من مغادرة ميادين القيل القال في أقرب وقت وفي لحظة مبكرة، يتبعون في طريقهم نحو هدفهم المبتغى -بوصلة الإيمان- الصادقة، يسبقون بفكرهم فكر الكثيرين، لكنهم لا يتعالون أو يترفعون على هؤلاء أو أولئك، يقبلون اعتناق فكر جديد مقترح، ما دام هذا الفكر لا يتعارض مع مبادئهم وعقائدهم.
الحكماء عادة ما يتخذون من هدوء أنفسهم مسلكًا لأرواحهم الطيبة، يطأون بأقدامهم طريقًا أبديًا يمثلهم ويدل عليهم، يرسلون برسائلهم الرقيقة عبر منطقتي الوسطية والاعتدال، غير متشبثين برأي على حساب رأي آخر يتمتع بالصواب أكثر منه، فهم ألفوا المرونة التي منحتهم تأشيرة مرور لكل طريق يتصف بالحكمة.
أقاموا هناك حيث الاتزان، حيث الأمان النفسي، سكنوا القمم العالية، ارتدوا رداءات الحكمة التي فصلت بينهم وبين مناطق الخلاف المزعجة والمهلكة، هدأت نبرة الصوت، وحل الصمت محل نوبات الصراخ، بدت قمم الحكمة في الظهور شيئًا فشيئًا، أشرقت شمسها الساطعة، أضاء بالنور قمرها، أنشدت أنشودة الإنسانية، تغنت بألحانه طيورها، ألقت بظلالها على عقول نجحت، فتقدمت.