للبادية في مصر قوانينها الممتدة عبر مئات السنين، والتي تستند إلى موروث ثقافي وجذور تاريخية وتقاليد راسخة تتوارث بين القبائل عبر الأجيال.
ومثلما أوضحنا في حلقات سابقة مفردات القضاء العرفي ومعانيها، نتحدث اليوم عن أحد العقوبات المرتبطة بالنظام القضائي البدوي، وهي عقوبة "التشميس"، التي تتميز وتنفرد بها القبائل العربية في شبه جزيرة سيناء عن غيرها من باقي المحافظات، وظاهرة التشميس هي عقوبة الخارج عن أعراف القبيلة فهو مطرود منها ليصبح وحيدًا ليس له أي حقوق وواجبات من قبيلته، من حق أي قبيلة أو عشيرة أن ينبذوا رجلاً من بينهم ويتبرؤوا منه؛ بسبب سؤ طبعه أو سلوكه أو عدم التزامه بقوانين البدو، وتعلن هذه القبيلة أو العشيرة على الملأ : "أن فلان مشمس ولا يحق المطالبة بدمه إذا قُتل" أي متروك في الخلاء تحت الشمس لا تظله القبيلة أو العشيرة بحمايتها.
ولا يحق للقبيلة أو العشيرة أن تشمس رجلاً أقترف جريمة إلا بعد حل المشكلة وفي اللغة الدارجة لدى البدو (غسل هدومك وبعدين شمس)، ودائماً يبدأ التشميس بعد أن تحل المشكلة وبعد اقتناع القبيلة أو العشيرة بأن هذا الرجل يتسبب في كثرة المشاكل وجلب المتاعب لهم.
أهداف ظاهرة التشميس
1- تعديل السلوكيات غير المرغوب فيها، مثل "السرقة، النصب"، وغيرها من السلوكيات التي تسهم في فساد المجتمع.
2- تعمل ظاهرة التشميس على نبذ الخلافات و النزاعات بين القبائل و العشائر وبناء جسور من التواصل والمحبة والود.
3ـ تعمل ظاهرة التشميس على إستقرار المجتمع بعد بتر العنصر الفاسد وإصلاح ما تم هدمه.
شروط التشميس
أولا: أن يخرج الشخص عن أعراف القبيلة وبالتالي يحرم من العزوة والأمن والأمان والترابط والدفاع عنه، والخروج تحت الشمس حيث العراء، والتخلي عنه يواجه مصيره بنفسه حتى وأن قُتل أحد لا يجد من يطالب بديته.
ثانيا: لا تتمثل ظاهرة التشميس في حق الفرد فقط، بل يمكن تطبيقها على أحد فروع القبيلة أو بعض العائلات بكاملها الذين خرجوا عن أعراف القبيلة.
ثالثا: تلجأ القبيلة أو بعض عشائرها لظاهرة للتشميس حين يقوم أحد أفراد العائلة أو العشيرة بجلب المشاكل لقبيلته، غير ما يسببه لها من متاعب أو مشاكل، على الرغم من النصح والتوجيه له، بعدم فعل هذا الجُرم، ويتم التنبية عليه مرة واثنين وثلاثة، وبيان ما يترتب على هذا حدوث أضرار للقبيلة من خسائر مادية أو معنوية أو تشويه سمعتها الطيبة بين الناس والمجتمع، مما يؤثر عليها سلبًا وعلى صورتها وتعاملاتها وعلاقاتها بباقي القبائل.
رابعا: تجتمع القبيلة أو العشيرة بكبار عواقلها، وشيوخها ويعقدون ما يشبه الجمعية العمومية لتأخذ قرارًا بشأن العضو الذي توجب أفعاله التشميس؛ تجنيبًا القبيلة من تبعات تجاوزاته وبلطجته ورعونته وجلبه الدائم للمشاكل.
خامسا: يتم إعلان قرار التشميس في أكثر من مكان عام، مثل الدواوين والمقاعد .
سادسا: لا تتم ظاهرة التشميس قبل أن يتم تغسيل الشخص من بعض المشاكل التي افتعلها .
سابعا: تعمل ظاهرة التشميس على ضرورة الالتزام بقواعد وعادات وتقاليد القبيلة، وعدم الخروج عن الأعراف المتعارف عليها لدى المجتمع، وأن يخضع الفرد للقبيلة، وألا يكون سبباً في حدوث للمشاكل والأزمات والخلافات، وبالتالي تكون ظاهرة التشميس علاجًا لبتر الفرد الفاسد من القبيلة كحل أخير.
أصول ظاهرة التشميس
التشميس أصول، فالشخص الذي يجري "تشميسه" يجب في البداية سداد جميع ديونه، ورد جميع حقوق الغير، ثم تكتب ورقة "التشميس" ليعلم الجميع أن هذا الشخص تم طرده من القبيلة، وبالتالي لا يقع علي القبيلة أي حقوق حينما يخطئ هذا الشخص، وعلى صاحب الحق الحصول على حقه بعيدا عن القبيلة، كما أنه لا يحق للقبيلة الاقتصاص له إذا حدث له مكروه من أحد أبناء القبائل الأخرى.
عند رفع "التشميس" عن الفرد، لابد من أن يتم تنفيذ نفس الخطوات التي جرى اتباعها خلال توقيع عقوبة التشميس عليه؛ بمعنى أن يقوم أهله من القبيلة بكتابة ورقة تؤكد رفع التشميس عنه، وتوزيعها على الجميع؛ لإخطارهم رسميا بذلك حتى لا يتعرض له أحد، ويتعامل الجميع معه مرة أخرى.
طريقة التشميس
يتم تطبيق التشميسعن طريق 9 أشخاص من المقربين للشخص، بشرط أن يكونوا من أسرته وأبناء عمومته فقط، ويكتبون في ورقة أنه جرى تشميسه، "أي التبرأ منه وأن القبيلة غير ملزمة بأفعاله"، ويتم تصوير الورقة وتوزيعها على جميع القبائل البدوية، ومجالس القضاء العرفي، والهيئات الأمنية المختلفة؛ لإعلام الجميع بأنهم غير ملتزمين بأفعاله، ولا يرجعون إليهم في حالة ارتكاب أخطاء ويتعاملون معه.
كما لفت إلى أنه في حالة القبض على الشخص "المشمس" من قبل الشرطة، لا يذهب أحد لزيارته.
في حالة عودته إلى قبيلته مرة أخرى يترك لمدة تتراوح ستة أشهر؛ حتى عام التأكد من التزامه وعدم ارتكاب الأخطاء مرة أخرى، وهذا يتم بشهادة جميع من يتعاملون معه.
د. سليمان عباس البياضي
عضو اتحاد المؤرخين العرب
د. سليمان عباس البياضي