يُعد الحضور المصري رفيع المستوى في احتفالات “يوم النصر” بالعاصمة الروسية موسكو هذا العام انعكاسًا حقيقيًا لمكانة مصر الدولية، وتجسيدًا لعلاقات ثنائية شهدت تطورًا نوعيًا خلال السنوات الأخيرة. هذا الظهور لم يكن مجرد تمثيل دبلوماسي بروتوكولي، بل تأكيد واضح على متانة الشراكة المصرية الروسية، وعلى إدراك الطرفين لدور كل منهما في صياغة توازنات النظام الدولي الجديد.
فمنذ عام 2014، شهدت العلاقات المصرية الروسية طفرة غير مسبوقة، تُوجت بإعلان الشراكة الاستراتيجية الشاملة في عام 2018. ومنذ ذلك الحين، حافظ الزعيمان، الرئيس عبد الفتاح السيسي والرئيس فلاديمير بوتين، على وتيرة عالية من التواصل المباشر، تمثلت في تبادل العديد من الزيارات الرسمية التي عززت التنسيق في القضايا الإقليمية والدولية، ودفعت بالتعاون الثنائي إلى آفاق أرحب.
ففي ضوء الشراكة الاستراتيجية التي تجمع بين مصر وروسيا، أصبح التعاون الاقتصادي بين البلدين ركيزة أساسية في العلاقات الثنائية، وليس مجرد جانب مكمل لها. من الطاقة إلى الزراعة، ومن الصناعة إلى التمويل، يتسع نطاق الشراكة ليغطي مجالات استراتيجية تعكس عمق المصالح المشتركة، وتفتح آفاقًا واعدة لمرحلة جديدة من التكامل الاقتصادي.
المشاريع الكبرى القائمة:
أبرز رموز التعاون الاقتصادي هو مشروع محطة الضبعة النووية، والذي يعد أول مشروع من نوعه في مصر، وتنفذه شركة “روساتوم” الروسية بتمويل وتكنولوجيا روسية. هذا المشروع لا يقتصر على إنتاج الطاقة فقط، بل يمثل نقلة نوعية في نقل الخبرات والتكنولوجيا، وتكوين كوادر مصرية مؤهلة في مجال الطاقة النووية السلمية.
كما تلعب المنطقة الصناعية الروسية في محور قناة السويس دورًا محوريًا في تعزيز الشراكة الصناعية، حيث من المتوقع أن تستقطب استثمارات بمليارات الدولارات وتوفر آلاف فرص العمل. وستكون هذه المنطقة منصة لإنتاج وتصدير منتجات روسية إلى إفريقيا والشرق الأوسط، ما يعزز دور مصر كمركز إقليمي للتصنيع والخدمات اللوجستية.
مؤشرات التوسع الاقتصادي:
1. زيادة التبادل التجاري: شهد حجم التجارة بين مصر وروسيا نموًا ملحوظًا، خاصة في مجالات الحبوب (القمح الروسي يمثل جزءًا كبيرًا من واردات مصر)، والمواد الخام، والمعدات الصناعية. هناك اتجاه لزيادة التبادل بالعملات المحلية (الجنيه والروبل)، لتقليل الاعتماد على الدولار وتخفيف الضغوط المالية الدولية، بلغ حجم التبادل التجاري ٨٠ مليار دولار تقريبًا.
2. التعاون في الأمن الغذائي: في ظل التحديات العالمية، بات تعزيز التعاون في الزراعة وتخزين الحبوب أمرًا حيويًا. من الممكن تطوير شراكات زراعية مباشرة، وإنشاء مراكز لتخزين وتوزيع الحبوب الروسية في مصر.
3. الطاقة والتكنولوجيا: إلى جانب الطاقة النووية، هناك فرص كبيرة للتعاون في مجالات الطاقة المتجددة (الرياح، الشمس)، والتكنولوجيا المرتبطة بإدارة الموارد المائية وتحلية المياه.
4. السياحة والطيران: عودة السياحة الروسية إلى مصر بقوة تُعد مؤشرًا على الاستعداد المتبادل لتعزيز هذا القطاع. ومن المتوقع أن يؤدي إنشاء خطوط طيران مباشرة منخفضة التكلفة إلى مضاعفة الأعداد، إلى جانب استثمارات روسية محتملة في البنية التحتية السياحية.
سيناريوهات التعاون الاقتصادي المستقبلي
السيناريو الأول: محور تصنيع وتصدير مشترك
إذا تسارعت خطوات تنفيذ المنطقة الصناعية الروسية، فقد تتحول مصر إلى مركز لتصنيع المنتجات الروسية (معدات، سيارات، سلع هندسية) وتصديرها إلى إفريقيا. وهذا سيعزز التكامل مع مبادرة “الحزام والطريق”، ويخلق تداخلًا روسيًا مصريًا في أسواق ناشئة.
السيناريو الثاني: شراكة في التكنولوجيا والبنية التحتية
من خلال شراكات مباشرة في قطاعات التكنولوجيا الحيوية والرقمية، يمكن لمصر الاستفادة من الخبرات الروسية في الأمن السيبراني، وأنظمة المراقبة الصناعية، والتطوير التقني للمرافق العامة.
السيناريو الثالث: تحالف مالي وتجاري ضمن بريكس
مع انضمام مصر رسميًا إلى مجموعة “بريكس”، قد نرى تعاونًا ماليًا مصريًا-روسيًا أوسع يشمل إنشاء صندوق تمويل مشترك لمشروعات البنية التحتية، أو مبادلات تجارية بالعملات المحلية، مما يمنح القاهرة هامش حركة أوسع بعيدًا عن الضغوط الاقتصادية الغربية.
نخلص أن السياسة الخارجية المصرية، التي اتسمت خلال العقد الماضي بالحكمة والاتزان، نجحت في إعادة تموضع مصر كقوة إقليمية ذات تأثير دولي ملموس. ومشاركة مصر في مثل هذه المحافل الكبرى، إلى جانب قادة من دول فاعلة، هي تأكيد على أن موقعها في معادلات السياسة العالمية ليس محل تساؤل، بل نتيجة مباشرة لجهد متواصل ورؤية واضحة خاصة في تضمين المكون الاقتصادي وما يرتبط به من مصالح ومكسب للجميع كآلية لتوحيد المواقف.
كذلك، ففي ظل عالم يشهد تحولات متسارعة، تبقى الشراكة المصرية الروسية نموذجًا لتعاون دولي يقوم على الاحترام المتبادل، والمصالح المشتركة، والرغبة في بناء مستقبل متعدد الأقطاب، أكثر توازنًا واستقرارًا. حيث لا تقتصر العلاقات المصرية الروسية على تنسيقات سياسية أو تحالفات ظرفية، بل هي شراكة تنمو على أرضية صلبة من المصالح المشتركة، والرؤى المتقاربة لمستقبل متعدد الأقطاب. وفي ظل هذا التقارب، تبدو مصر وروسيا مهيأتين للعب دور حاسم في صياغة مشهد اقتصادي دولي أكثر توازنًا واستدامة.