الأنظار كلها تتجه نحو بغداد، ليس فقط بسبب القمة العربية، ولكن نظرًا لرؤية الرجل الذي يدير المشهد السياسي في العراق، ونجح رئيس وزراء العراق محمد شياع السوداني فيما لم يكن أكثر المتفائلين يعتقد أنه يمكنه أن ينجح أو يستمر، ولكنه مستمر حتى الآن في واقع داخلي معقد وصعب. والأهم حتى الآن هو قدرته على الإبحار في واقع إقليمي معقد.
وتمكن برصانة "رجل دولة" لا انتهازية "رجل السياسة" من أن يمد جسورًا من الثقة، وأن ينسج "شبكة من المصالح" مع الأربعة الكبار مصر والسعودية وإيران وتركيا، وأن يجد صيغة من "التوازن الصعب" ما بين الولايات المتحدة وروسيا والصين وأوروبا.
وأحسب أن الرجل تمكن من خلال "مدرسته الواقعية"، أن يقنع الأطراف بألا تطالبه بما لا تطيق بلاده في هذه المرحلة، وأن تساعد العراق لينهض من جديد، والأهم تمكنه من نيل ثقة هذه القوى بأن لها "حصة مرضية" من ازدهار العراق في المستقبل القريب.
والأرجح أن "معركة الثقة" هي أصعب التحديات، ونجح السوداني بقوة في هذه المعركة، ولذا لم يكن غريبًا أن تتجاوب الأطراف المتنافسة مع مبادراته من أجل المصالحة، وتمكن من أن يجعل العراق ساحة حوار، وليس أرضًا للحروب وتصفية الحسابات. والواقعية هنا تقتضي أن نقول "نجح السوداني بقدر، وإلى حين"، والرجل وبلاد الرافدين بحاجة لمزيد من احتضان العرب لها لتتعافى بسرعة، وتعود إلينا أقوى.
وقبل أن تنطلق القمة العربية في بغداد يوم 17 مايو الحالي، فقد عرض السوداني رؤيته في مقال بجريدة الشرق الأوسط بعنوان "قمة بغداد: نحو نهج عربي جديد". ويرى السوداني أن "القمة العربية تأتي في سياق تحولي. إنها لحظة تلتقي فيها الإرادة الوطنية العراقية مع الأمل العربي العام في تجاوز الخلافات، والانطلاق نحو بناء منظومة تعاون عربي فعالة وشاملة".
وأحسب أن "تجاوز الخلافات"، وتحقيق "مصالحات عربية" هما أهم، وأخطر التحديات التي تواجه العالم العربي. ويرصد السوداني الغاية المنشودة الطموحة وهي "بناء منظومة تعاون عربي فعالة وشاملة".
وهنا أتفق معه فيما يرغب في إنجازه، ولكن لدي تحفظ وحيد وهو أن نعمل لبناء "منظومة فعالة، وأن نتدرج لنصل لمسألة "الشمول"، وأحسب أن السيد السوداني يعلم أكثر مني كيف تحطمت الأهداف الكبيرة على صخرة الواقع.
ويبدو أن الرجل يدرك حقيقة الأمور، ومن ثم يعود بسرعة ليقول "نحن بحاجة اليوم إلى خطاب عربي مسئول، يستند إلى الواقعية السياسية، ويؤمن بأن التضامن لا يعني التطابق، بل احترام الخصوصيات ضمن وحدة الهدف والمصير"، وفي الوقت نفسه لا يمكن للنخبة العربية أن تتعامى عن تعقيدات المشهد السياسي الإقليمي والدولي؛ فنحن إزاء لحظة استثنائية تمر بها منطقتنا، لحظة تحولات كبرى، وصراعات مفتوحة، وتحديات إقليمية مركبة.
ومن ناحية أخرى فإن دروس التاريخ تقول لنا إن كل أزمة تحمل معها فرصة، ولم يعد خافيًا أن وزن المنطقة العربية -رغم كل الأزمات - بات "وزنًا ثقيلاً"، ويحسب له حساب، بل يؤكد الكثير من الخبراء ومراكز الأبحاث أن "الكتلة العربية" مرشحة لأن تكون قطبًا في النظام العالمي الجديد "متعدد الأقطاب".
وعند هذه النقطة أتفق مع السوداني في رؤيته بأن القمة لا يجب أن تكون اجتماعًا بروتكوليًا بل "علامة فارقة وفرصة تاريخية لتجديد مشروع العمل العربي المشترك، واستعادة زمام المبادرة، وتثبيت موقع العالم العربي كقوة فاعلة لا ساحة تنازع."
ويطرح السوداني رؤية العراق في نقاط مهمة أبرزها: تعزيز العمل العربي يبدأ من تقوية العلاقات بين العواصم العربية، من الخليج إلى المحيط، على قاعدة الاحترام المتبادل، وعدم التدخل في الشئون الداخلية، وتفعيل الحوار الصريح والبناء، وتوحيد المواقف في القضايا الدولية.
إن التحديات التي نواجهها – من العدوان الإسرائيلي المتكرر على غزة والضفة ولبنان وسوريا، إلى الانقسامات الداخلية في بعض الدول العربية، إلى التدخلات الإقليمية والدولية – تهدد ليس فقط أمن هذه الشعوب، بل إرادتنا الجماعية كأمة.
من هنا، نرى أن الوقت قد حان لإطلاق مبادرة عربية موحدة، تتجاوز البعد الإنساني لتدعم بناء الدولة الوطنية القائمة على الدستور والكرامة والتنوع. إستراتيجية تنموية عربية شاملة، واعتماد نهج اقتصادي تكاملي يعالج التفاوت التنموي، ويعزز القدرة الجماعية على مواجهة أزمات الغذاء والطاقة وسلاسل الإمداد.
العراق لا يرى نفسه لاعبًا منفردًا، بل يرى أن دوره الحقيقي يكمن في الجمع بين الأشقاء، واستعادة الثقة بمؤسسات العمل العربي، والتأسيس لعصر جديد من الشراكة السياسية والاقتصادية. إن الأمن القومي العربي كل لا يتجزأ، ولا يمكن أن يتحقق من دون تعاون فعلي، وسياسات متوازنة، ومؤسسات قوية تحمي المصالح العليا للأمة.
وفي هذه اللحظة الدقيقة فإن المهمة ليست إعادة بناء العراق، وإنما ليبيا وسوريا والسودان وغزة، بل مطلوب من الدول العربية أن تبادر وتشارك في إعادة رسم ملامح الشرق الأوسط، عبر سياسة خارجية متوازنة، وقيادة واعية، ومبادرات تنموية، وشراكات استراتيجية. وأن تتجاوب مع نداء بغداد لكل العواصم العربية: آن الأوان لأن نبدأ من جديد، على أرضية جديدة، ومنهجية جديدة، وإرادة جديدة.
وأحسب أن العراق الجديد وخاصة في وجود شخصية متوازنة مثل السيد السوداني سوف يتمكن من عقد قمة مختلفة، في ظل سعي حكومة بغداد إلى إنجاح القمة، وتوفير السبل لضمان مناقشات مثمرة تُسهم في حلحلة أزمات المنطقة، وبينما ينظر العراق إلى القمة بصفتها تأكيدًا لاستعادة بغداد دورها في المحيط العربي، فعلى الأرجح ثمة عواصم عربية كبرى ومؤثرة تتطلع وتعمل على أن ينهض العراق ليكون "قوة كبرى" في البناء ونهضة واستقرار العالم العربي، وفي الوقت الذي تدرك فيه العواصم العربية، أن «قمة بغداد» تُعقد في ظروف «بالغة الصعوبة»، يتفق غالبية الخبراء على أن القمة فرصة سانحة لتوحيد المواقف العربية ومواجهة الأزمات.
وأغلب الظن أن هناك إدراكًا عربيًا بأن القمة تأتي في ظل ظروف إقليمية وعربية بالغة التعقيد، وعلى رأسها الوضع في غزة والضفة ومحاولات تصفية القضية الفلسطينية، ناهيك بالوضع في لبنان والسودان وليبيا وسوريا. وهناك الكثير من الملفات الشائكة والصعبة على طاولة الزعماء العرب تتطلب تنسيقًا عاليًا وتجاوزًا للخلافات والتباينات بين الدول الأعضاء لمأسسة جهد عربي مشترك، والاشتباك مع الأطراف الفاعلة لمواجهة التحديات والملفات الشائكة.
وفي الوقت نفسه فإن القمة تأتي في لحظة تتقاطع فيها الأزمات الإقليمية مع تحديات داخلية عميقة في العالم العربي، وهذه التحديات والأزمات تفرض ضغوطًا متزايدة على الدول العربية للانتقال من التصريحات الرمزية إلى إجراءات ملموسة.
ويبقى أن السيد السوداني يطرح رؤية متميزة وجديرة بالتفاعل معها ودعمها، وربما يرى البعض أنها تحتاج لبرامج محددة بواقعية، ولبناء توافق عربي، وإذا كان لي أن أساهم فإنني أقترح بناء "تحالف الراغبين" من الذين يشعرون بالخطر، ويدركون الفرصة، ويتسمون بالواقعية السياسية.
وأحسب أن مصر هي أول الراغبين؛ وتشارك العراق الشقيق، والسيد السوداني رؤيته.