قناة السويس ومناهجنا

7-5-2025 | 16:58

"عيسى وعويس بنوا القناة، جه ديليسبس قال لنا هس، إنتوا النص وإحنا النص، جه جمال قال لهم بس ورجع القناة"، قفزت هذه الكلمات إلى ذهني والتي كنا نرددها في الطفولة، ونتغنى بها بالمدرسة، مع مقولة ترامب واقتراحه بمرور السفن الأمريكية مجانًا بالقناة، أسوة بما طلبه من بنما والمرور بقناتها وأن هاتين القناتين ما كانتا تتواجد لولا أمريكا! 

وبعيدًا عن هدف تصريحاته ومخالفتها للتاريخ، إلا أنها تفتح الطلب مجددًا لضرورة تضمين قضايا الأمن القومي بمناهجنا الدراسية، ولكن ليس على طريقة كلمتين وبس، وإنما بالإلحاح المستمر طوال سنوات الدراسة.

فمثلًا هل يعرف طلابنا تاريخ الأمريكتين؟ فعمر حفر القناة المصرية تزامن مع الحرب الأهلية بأمريكا، وهي حروب ضارية بين الولايات بعد الاستقلال، ولم يكن هناك أي دور لأمريكا عبر تاريخ القناة، اللهم عقب تأميم القناة من خلال توجيه الإنذار عام ١٩٥٦، أثناء العدوان الثلاثي ومطالبتها للدول الثلاث بالانسحاب، وبوقف الحرب، وكذلك فعل الاتحاد السوفيتي أيضًا، ولكن على الجانب الآخر يبدو أنها لم تنس أبدًا أهمية قناة السويس، وملكية مصر لها، وكثيرًا ما تردد وتدعم أفكارًا لإنشاء قنوات أخرى منافسة في المنطقة لضرب دور قناة السويس ودورها المحوري دوليًا.

إن تاريخ مصر الحديث، ومنذ منتصف القرن التاسع عشر يدور سلبًا وإيجابًا حول مطامع الاستغلال، أو السيطرة على قناة السويس، بعدما أصبحت شريانًا حيويًا ورئيسيًا في التجارة والاقتصاد العالمي؛ نظرًا لموقعها المتفرد، وما يرتبط بها من أراض في سيناء، ولذلك أصبحت القناة مطمعًا للسيطرة الدولية عليها أو الحد من دورها، وحدث قديمًا بل وحتى الأيام الماضية، وبمختلف الوسائل مرة بالاحتلال المباشر، أو الديون، أو الحروب، والطلبات غير المنطقية.

فقناة السويس ليست مجرد ممر مائي وأحد المصادر الأولى للدخل القومي، وإنما مكونًا للأمن القومي المصري بمعناه الاقتصادي والعسكري والمستقبلي أيضًا.

ولذلك لابد أن تتضمنها مناهجنا بشكل مستمر، فهذا ما يشكل التاريخ الجمعي وسرديته بإلحاح عليها.

فعلى سبيل المثال لذكرها بالمناهج، فنبدأ بذكر دورها القديم أيام الفراعنة، حينما شقها الملك سنوسرت الثاني، وكذلك عدد آخر من الفراعنة والرومان، ثم نذكر في منهج آخر محاولات إحيائها أيام دخول عمرو بن العاص والمسلمين إلى مصر، ثم حكاية أخرى عن علماء ومهندسي الحملة الفرنسية المصاحبين لبونابرت، وجماعة السان سيمونيان الفرنسية، وهم أصحاب دراسات في حفر القناة، ثم حكاية ومعلومات هندسية في مناهج الرياضيات عن المهندس نجرللي وله شارع باسمه بمدينة الإسماعيلية، والذي كانت دراسته الهندسية هي التي تم اعتمادها لحفر القناة، والتي استولى على أعماله وأخذ أوراقه ورسومات القناة الهندسية فرديناند ديليسبس وهو ليس مهندسًا، ثم موضوع آخر عن عقد الامتياز الأول للقناة، وقصة ديليسبس، وهي معروفة، ودوره الذي قام به في عقود القناة، والأسهم التي ورط بها الخديو إسماعيل ومصر.

ودرس آخر عن الاحتفال الأسطوري بافتتاحها، وموقف ديليسبس في هزيمة عرابي ودخول الإنجليز، وذلك حتى تتعرف الأجيال الجديدة على دوره من وثائق التاريخ، ولماذا نزع المصريون تمثاله عند مدخل القناة عند التأميم لها، والمفارقة أن يطالب البعض الآن بعودته إلى مكانه بدلًا من إقامة تمثال للفلاح المصري الذي بنى القناة.

وتقول الأرقام إن عددهم وصل إلى مليون مصري، من تعداد اقترب من ٤ ملايين أي ربع الشعب المصري بخلاف الوفيات، ثم درس آخر لعلاقة الاحتلال الإنجليزي مع القناة وتمسكه بالسيطرة عليها، ودور مدن القناة سواء بعد معاهدة ١٩٣٦، ومنها دور الاحتلال في ضرب قوات الشرطة المصرية في المديرية بالإسماعيلية والدفاع البطولي للشرطة عنها، أو في حروب مصر والتهجير منها.

ودرس آخر عن مطالب الحركة الوطنية والوفد بتأميم القناة، ودرس آخر عن تكليف الطالب المصري د.مصطفى الحفناوي، وهو الوحيد الذي حصل على الدكتوراه عن القناة من السوربون، وهو من هرَّب في ملابسه وثيقة اتفاقية القناة من السلطان العثماني، وأنها شركة مساهمة مصرية، وهي العبارة الخالدة التي قالها الرئيس عبدالناصر عند تأميم القناة، التي استدعى لصياغتها د.مصطفى الحفناوي؛ لوضع الصيغة القانونية للقرار، ويتفرغ أيامًا مع الرئيس عبدالناصر لإصدار قرار التأميم مكتملًا قانونًا.

ثم درس آخر لأغنية "محلاك يا مصري" كما غنتها أم كلثوم؛ لتجسد تنفيذ خطة التأميم، وبطولة المرشدين والبحرية المصرية في استمرار وعمل القناة بعد انسحاب المرشدين الأجانب.

ودرس عن فنارة القناة، ثم درس عن حرب ١٩٥٦ والعدوان الثلاثي، ودرس آخر عن خطة عبور القناة في أكتوبر العظيم وتحطيم خط بارليف، الذي أقامته إسرائيل حول القناة.

ثم درس عن دعوة الرئيس السيسي إلى توسيع وإقامة القناة الجديدة عام ٢٠١٦، ودرس آخر عن معجزة المصريين في تغطية الاكتتاب لها في أيام قليلة فقط، ثم درس آخر لمعالجة جنوح السفينة الشهيرة بها منذ سنوات قليلة وبفكرة مصرية، وقد صدرت عنها كتب للطلاب في الخارج، ويوزع ملايين النسخ على الطلاب، وهكذا يستقر دورها المحوري في الوجدان.

ولما كانت الوزارة في تطويرها للمناهج تستعين بالمقالات الصحفية، فأقترح الاستعانة بعدد "المصور" التاريخي عام ١٩٦٩ في مئوية القناة، وأصدره أحمد بهاء الدين، وعدد الاحتفالية مؤخرًا لمرور ١٥٠ عامًا أيضًا.

إن القناة حفرت بأيادٍ مصرية ومِلك لمصر، وما زالت حتى الآن تدور الأطماع حولها بدءًا من السيطرة، وانتهاءً بطلب المرور المجاني؟! وليس هناك أكثر من الأجيال الحالية والقادمة نحصنهم بتاريخ قناة السويس، والتي يبدو ستستمر الأطماع حولها وحول سيناء بكل الأفكار والحيل، فهناك فرق أن تُسرد التاريخ جامدًا في أسطر قليلة، وبين أن يعرّف النشء منذ الصغر وبالتكرار المستمر الحقائق بأنفسهم فيتعمق أغراض الأمن القومي في الأذهان، بمفهوم "دع قناتي، فقناتي مغرقة".

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة