في أحد الأمسيات الهادئة على ضفاف النيل، حيث ينساب الماء بهدوء كأنه يترنم بلحن قديم، جلست أستمع إلى عزف يخطف الأرواح قبل الأسماع.. أصابع رشيقة تلامس مفاتيح البيانو ببراعة نادرة، تعيد إلى الذاكرة زمنًا لم يعد إلا في الأسطوانات القديمة وذكريات من عاشوه..
كان العازف مع البيانو، كأنه يحاوره بلغة خاصة، فتجيبه بألحان فريد الأطرش، وعبدالحليم حافظ، وأم كلثوم، لم يكن مجرد عزف، بل سفر عبر الزمن إلى حقبة كانت الموسيقى فيها روحًا تسكن كل شيء..
سألت عن العازف؟، فقيل لي: إنه مجدي الحسيني..، العازف الكبير مجدي الحسيني. في عالم يزداد ضجيجًا كل يوم، تظل الموسيقى هي الملاذ الوحيد الذي يغذي الروح قبل العقل، يهدئ القلب قبل الأذن. وعندما يعزف فنان مثل مجدي الحسيني، لا يصبح مجرد عازف، بل حكّاء يروي تاريخًا كاملاً من المشاعر والأحلام والذكريات..
فالموسيقى ليست نغمات تُعزف، بل ذكريات تُخلّد، وجسور بين الأجيال. والفنان الحقيقي، مثل مجدي، ليس فقط صانعًا للجمال، بل حافظًا لتراثٍ قد يضيع لو لم يجد من يحمله بصدق.
مجدي الحسيني ليس مجرد اسم في عالم الموسيقى، بل هو ممن صنعوا لحظات خالدة في وجدان الملايين.. عندما نستمع إلى عزف مجدي الحسيني، لا نسمع البيانو وحده، بل نسمع روح عبدالحليم حافظ، وشجن أم كلثوم، وعبقرية فريد الأطرش. هؤلاء الفنانون لم يقدموا ألحانًا فقط، بل قدموا درسًا في الإخلاص للفن، وفي كيف يمكن للإنسان أن يتحول إلى أسطورة من لحم ودم.
إن عدم الاهتمام بهؤلاء الكبار هو إهمال لتاريخنا الفني، بل وتاريخنا الإنساني. فكيف نطالب الأجيال الجديدة بالإبداع إذا كنا نفسر كل جيل جديد بأنه "ليس مثل زمان"؟ الأجيال تحتاج إلى قدوة، والمجد الحقيقي لا يُبنى إلا على أكتاف من سبقونا.
مجدي الحسيني وعظماء جيله علمونا أن الفن رسالة، وليس مجرد شهرة عابرة. لو سألت أي عازف شاب اليوم عن نموذج العازف؟ فلن يتردد في ذكر أسماء مثل مجدي الحسيني، لأنه يمثل ذلك الجيل الذي صنع الفن بكل ما في الكلمة من معنى. لم يكن الفن عندهم مهنة، بل هوية.. والأهم من ذلك، أنهم لم يبحثوا عن الأضواء، بل جعلوا الأضواء تبحث عنهم.
الأجيال الجديدة تحتاج إلى أن ترى هؤلاء الكبار، وهم يُكرمون، تحتاج إلى أن تسمعهم وهم يحكون كيف كان الفن طريقًا للجمال، وليس للشهرة الفارغة!!
مجدي الحسيني لم ينتظر تكريمًا ليعزف، ولم يتوقف عندما قلّت الأضواء، لأنه كان يعزف من أجل الموسيقى نفسها، لا من أجل شيء آخر. وهذا هو الدرس الأهم: أن يكون الفن غاية لا وسيلة.. في زحام الحياة، قد ننسى أحيانًا أن الفن هو ما يجعلنا بشرًا. ومجدي الحسيني وأمثاله هم من يحفظون لنا هذا الجانب الإنساني..
ربما حان الوقت لأن تلتفت وزارة الثقافة إلى هؤلاء الكبار قبل فوات الأوان، ولماذا لا نرى معرضًا يوثق مسيرة مجدي الحسيني؟ لماذا لا تُنشر مذكراته؟ لماذا لا يكون له برنامج خاص في الإذاعة أو التليفزيون يحكي فيه ذكرياته مع فريد والعندليب والست؟
الأهم من ذلك، لماذا لا يكون له مكان دائم في دار الأوبرا، حيث يمكن للشباب أن يتعلموا منه أن الفن الحقيقي لا يذبل؟ السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا لا تكرمه الدولة أو وزارة الثقافة؟ لماذا لا نراه في دار الأوبرا المصرية وهو الذي قدم للأجيال دروسًا في الإبداع؟