6-5-2025 | 18:13

مسكين "جون ناش"، أقسم أنه مسكين حتى ولو فاز بألف جائزة نوبل! ماذا تساوي كل جوائز العالم وهو يعيش ملازمًا لهذا الفصام، يرى أشياء ويسمع أصواتًا ويحادث أشخاصًا لا وجود لهم إلا في خياله.

هي لعنة بلا شك، لعنة تصيب كل من يبتلى بالتفكير وإعمال العقل ومناقشة النفس، لعنة تحليل الأحداث والمواقف، لعنة تأمل النظرات والكلمات والهمسات والإشارات، لعنة التنبؤ والتوقع وبناء سيناريوهات متعددة لما يمكن أن يحدث.

لعنة أن تنظر حولك فترى وتلحظ وتتأمل وتفكر فيما تلقي به العيون من معانٍ، أن تنصت وتنتبه وتحلل ما تقذف به الألسنة إلى داخل أذنك من كلمات، وما تلقي به وتثيره حولك العقول من أفكار.

لعنة أن تتوقف بحكم طبيعتك لتناقش كل ذلك وتحلله، لتجد نفسك في النهاية محاطًا بالعديد من السيناريوهات ممكنة الحدوث، تجدها تتكون وتظهر وتتبلور أمام عينيك في وقت يتمسك فيه آخرون بسيناريو واحد فقط قاموا بضبط أدمغتهم عليه، ومن غير المقبول ولا المسموح ولا المعقول مخالفته أو مناقشته.

كثيرًا ما ثار وقرر بكامل إرادته ألا يفهم أكثر وألا يعرف أو يحلل أو يناقش أكثر.. كان يشعر بهاتف يلتهم أذنيه صارخًا وناصحًا له كي يتوقف عند هذا الحد وليكن ما يكون، لكنه لم يستطع أن يفعلها بكل أسف. لم يتراجع عن قراره بإرادته فقد كان عازمًا ومصرًا على التوقف عن التفكير والتحليل، لكنه لم يستطع! لم يستطع أن ينفذ هذا القرار رغمًا عنه، وكأن قوة خفية تدفعه دفعًا نحو مصير مجهول ينتظره بمنتهى اللهفة.

أكثر من مرة يجمع أكوامًا من الكتب التي تملأ غرفته ثم يحرقها، ويقف فرحًا لتخلصه من هذا الحمل الثقيل، أخيرًا سوف يرتاح من التفكير والتحليل، سوف يهدأ وتهدأ ثائرته التي طالما دفعته للنظر والتأمل، للفحص والاستنتاج، فليذهب كل ذلك إلى الجحيم، فكل ما يرغب فيه هو أن يرتاح، أن يغمض عينيه ويذهب في سبات عميق!

انتهى الأمر وأصبح زاهدًا في رؤية ما يجري في عقول من حوله وتسجيله في حوادثه وقصصه المملة التي لا يقرأها أحد، وإن قرأها أحدهم ظل يسخر متسائلًا بضحك هستيري عما أدراه بكل ذلك؟ هل تسلل إلى العقول وعلم ما يدور بها بقدرة خفية أم هو سحر ساحر؟ يا عزيزي ارحمنا من أسلوبك وطريقتك الغريبة، لا تتحدث عن التفكير والتحليل، فما هي إلا تكهنات.. مجرد حظ.. هكذا يرونه مهما شرح لهم من نظريات، ومهما تحدث عن "ناش" وعبقريته، "ناش" مريض فصام ولا شك أنه قد أصابته العدوى منه.

وصفوه "بالدبلوماسية" وعيونهم تملؤها نظرات الاتهام لكل ما يمت لتلك الكلمة بصلة، بالنسبة لهم هي رمز اللف والدوران والقفز في الاتجاهات الأربعة للتهرب من الإجابة على أسئلتهم واستفساراتهم. ولطالما أكد لهم بكل الأيمان عدم تهربه من شيء، وفسر لهم أنه يرى أن أي أمر في هذه الدنيا له العديد من الأوجه، ويحتمل العديد من التفسيرات، وأنه لا يمكن الحكم بناء على وجهة نظر واحدة فقط.

أوضح لهم أنه لا يوجد شيء صحيح مائة بالمائة، ولا شيء خطأ مائة بالمائة. ليس هناك شخص نموذجي تمامًا ولا شخص سيئ على إطلاقه حتى النخاع.

إذا نظرنا إلى الأمور من مختلف زواياها فلا بد وأن نصل إلى العديد من الآراء، ومن المستحيل أن يقف الأمر عند وجهة نظر واحدة، فهو أمر يتعارض مع العقل والمنطق وطبيعة الأشياء كما خلقها الله سبحانه وتعالى، فإذا لم تكونوا قادرين على استيعاب تلك الحقيقة فعلى الأقل اصمتوا، لا تجادلوا ولا تفتوا فيما لا تعلمون.

لا يدركون أنهم يقومون بالمهمة كاملة: يسألون ويجيبون ويتشنجون ثم يصرخون ويشيحون وينتحبون ويولولون، إذا نطقت بما يخالف ما يقولون.
لكنهم ليسوا دائمًا بتلك القسوة، فكثيرًا ما تعاطفوا معه وذرفوا الدموع على هذا المسكين الأحمق الذي لا يفهم ولا يعي شيئًا، وربما تهامسوا – منعًا لإحراجه – واتفقوا ألا يشركونه في مناقشاتهم الصعبة المعقدة مرة أخرى، ترفقًا بعقله المحدود الذي لا يحتمل المناقشة والتحليل.
ألا ليتهم يفعلون...

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة