الرهان على صحوة "العراق الجديد"

7-5-2025 | 12:55

كثيرون في العالم العربي يحبون العراق، والأغلبية من المصريين لديهم "روابط خاصة" مع بلاد الرافدين. وأنا قصتي مع العراق بدأت من بعيد، فقد كنت في زيارة لألمانيا والنمسا عام 1986، وزرت المتحف في ميونخ، ووجدت تمثال نفرتيتي، وعبارة لن أنساها تقول: "أنظر إلى عيني وعد مرة أخرى". وبعدها ذهبت إلى برلين، وهناك كنت واحدًا من الذين بهرتهم "أسود الرافدين" في متحف برلين بألمانيا الغربية. واستمتعت مع زوار المتحف بمشاهدة النسخة الأصلية لبوابة عشتار (شارع الموكب) الذي تنتشر على جانبيه جداريات الأسود، في متحف بيرغامون (Pergamon).

وإلى جانب المنظر المهيب لشارع الموكب والإنجازية الرائعة للجداريات، يتساءل زوار المتحف: كيف حافظت هذه اللوحات على ألوانها وأصباغها بعد آلاف السنين (5 - 6 آلاف سنة)؟ وفي هذا عبقرية أخرى للفنان العراقي، وأحسب أن الشعور بالزهو بحضارتنا هو ما يجمع ما بين أهل مصر وأهل العراق. ورغم إعجابي وحبي لأهل العراق الجميل، لم أحرص على زيارة العراق في مواكب الزائرين، ولكن العراق المحتل طرق بابي، وكانت السفارة الأمريكية في ذروة الاحتلال من دعاني. وبالطبع رفضت، وذهب الآخرون. وبعد ذلك جاء هوشيار زيباري وزير الخارجية الأسبق، ولقد أدرت له ندوة بالأهرام، وكانت صريحة للغاية، وأثقلت أنا على الوزير الدمث بشأن مستحقات العمالة المصرية.

وذهب الوزير وشرح الأمر وما دار لرئيس الوزراء نوري المالكي، وتفهم الموقف، وحلت المسألة. ومرت الأيام وبدلًا من الذهاب لبغداد، فقد زرت السليمانية، وتعرفت على ساسة الأكراد، وكانت رسالتي لهم: "أهلًا بكم في العراق الموحد". ولم تنقطع صلاتي بأهل العراق، والأمانة تقتضي بأن نقول إن العراق غني برجاله ودبلوماسييه، ومن الذين تشرفت بالحوار معهم السفير الراحل قيس العزاوي الذي أحبته النخبة المصرية لخلقه وعلمه وحبه الصادق لمصر وبلده العراق، والسفير هشام العلوي، وكيل وزارة الخارجية لشؤون التخطيط السياسي. وهو دبلوماسي متمرس، ودار بيننا حوار طويل وممتع حول علاقات بلدينا، وبشرني قبل مجيء السيد محمد شياع السوداني رئيس الوزراء بأن الرجل يرغب وسيعمل على وضع علاقات مصر وبغداد في مكانة خاصة، وهو ما نراه يتحقق. وأحسب أن السيد هشام كان محقًا، كما أن السيد محمد شياع السوداني رئيس الوزراء أثبت أنه سياسي بارع، وتمكن من إحداث نقلة كبيرة في العلاقة مع مصر والدول العربية ودول الجوار، وأثبت مقدرة كبيرة في أن يعبر بالعراق خلال فترة العواصف الماضية بأقل الأضرار.

ولعل أهم ما نجح فيه العراق الجديد في ظل السوداني هو "الثقة في القيادة العراقية"، والأخطر الآن أن الجميع بات يراهن على العراق، والقمة العربية تستبشر بقوة بالعراق الجديد، وتنتظر منه المزيد لحل المشاكل العربية والصراعات الإقليمية.

وقبل كل هؤلاء، ينتظر العراقيون من السيد السوداني الكثير، والرجل يعرف ما ينتظره منه شعبه. ولقد قدم السوداني ببراعة ما يتطلع له العراق في "رؤية 2050".

وكتب السوداني يقول: "ينتظر شعبنا نهضة جديدة. هذه النهضة مشروطة بوجود بلد في أفضل حالاته. فنحن لا نفتقر إلى الموارد البشرية، ولا إلى الكفاءات التقنية، ولا إلى الموارد الطبيعية كالتربة والمياه، مع نهري دجلة والفرات. إن الموقع الجغرافي للعراق يمنحه مكانة استراتيجية على الساحة الدولية. كل هذا منح العراق مكانة مميزة عبر العصور، وجعله مركزًا للمعرفة والعلم على مر العصور، جامعًا العديد من العلماء والباحثين من جميع أنحاء العالم."

ويؤكد السوداني أن "اليوم هو اليوم المناسب لاستغلال كل هذا، وإعادة الدور الذي لعبه العراق بين دول العالم، وأخيرًا، حانت الفرصة لإطلاق الحملة الوطنية لإعادة الإعمار والتنمية في جميع أنحاء البلاد، بمساعدة الشعب العراقي وشركائنا وأصدقائنا".

والرجل طموح وواثق مثل الشعب العراقي، ومثل كل محبي بلاد الرافدين، ويقول بفخر: "سنبني عراقًا قويًا للعقود القادمة، وهذا ما سنفعله في خطتنا المستقبلية التي سنطلق عليها "رؤية العراق 2050"".

وفي الآونة الأخيرة بدأنا نشهد دوران عجلة الإعمار بقوة، وكشف نائب رئيس الهيئة الوطنية للاستثمار، سالار محمد أمين، عن أن بلاده تخوض مفاوضات متقدمة مع مجموعة طلعت مصطفى القابضة المصرية لإنشاء مدينة إدارية في جنوب بغداد على مساحة 35 مليون متر مربع بتكلفة تتجاوز 10 مليارات دولار.

وأضاف أمين في تصريحات إعلامية، على هامش "المؤتمر المصرفي العربي لعام 2025" الذي عقد في القاهرة مؤخرًا، أن العراق يسعى للاستفادة من خبرات مجموعة طلعت مصطفى في مجال إنشاء المدن المتكاملة لتنفيذ المشروع العملاق. وتوقع أمين تنفيذ المشروع المرتقب خلال 5 سنوات، على أن يتم تسليم الأرض للشركة نهاية العام الحالي.

ومن ناحية أخرى، أشار إلى نجاح العراق في الاتفاق مع شركة أوراسكوم المصرية لإنشاء محطة طاقة رياح بتكلفة استثمارية تصل إلى 500 مليون دولار. وقدر نائب رئيس الهيئة الوطنية للاستثمار حجم الاستثمارات المصرية في العراق بنحو 3 مليارات دولار حاليًا، وتوقع ارتفاعها إلى 10 مليارات دولار خلال 5 سنوات.

ومن ناحية أخرى، تلقى اتحاد الصناعات المصرية خطابًا من العراق لطلبات بقيمة إجمالية تقترب من نحو 12 مليار دولار في مختلف القطاعات، وهو ما يفتح الباب أمام فرص استثمارية كبيرة من الجانب المصري. وتضمنت المذكرة العراقية قائمة بالصناعات الحيوية التي تسعى بغداد إلى جذب استثمارات إليها، وكان قطاع إعادة الإعمار وصناعة الأدوية على رأس هذه القائمة، نظرًا لأهميته في تلبية الاحتياجات المحلية وتحقيق الاكتفاء الذاتي.

وبحسب أحدث البيانات الحكومية، فإن حجم التبادل التجاري بين مصر والعراق وصل إلى 500 مليون دولار سنويًا، وهو ما يمثل نسبة ضئيلة للغاية من حجم التجارة الخارجية للبلدين مع العالم. وفي يناير الماضي، وقع البلدان خلال الاجتماع الثالث للجنة الوزارية المشتركة بين العراق ومصر، 12 مذكرة تفاهم في مجالات مختلفة. وقال وقتها رئيس وزراء العراق السيد محمد شياع السوداني إن المنهج الإصلاحي الذي تبنته الحكومة طيلة عامين هو الذي مكن الشركات المصرية من دخول السوق العراقية بشكل تخصصي وواسع، ولدينا بالفعل عدد كبير من هذه الشركات تسهم في تنفيذ الكثير من مشروعات البنى التحتية والدخول في إطار الاستثمار والفرص المتاحة له في مختلف المجالات، مشيرًا إلى أن التعاقدات مع الشركات المصرية لتنفيذ مشروعات البنى التحتية وصلت إلى أكثر من 600 مليار دينار عراقي.

ويبقى أن الرهان المصري والعربي على العراق الجديد وقادته في محله، ولكن المطلوب وبشدة إسراع الخطي، فالشعوب تنتظر ما هو أكثر.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة