على وقع تقاطعات في المواقف وتشابكات في المصالح بين الملاك والمستأجرين، بدأ مجلس النواب حوارًا مجتمعيًا حول قانون الإيجار القديم في محاولة للتوصل إلى حلول عادلة لهذه القضية المجتمعية الشائكة، والتي ترجع إلى عقود طويلة من الجمود، عبر وضع تشريع جديد يحقق التوازن في العلاقة الإيجارية، وينهي حالة الاحتقان المجتمعي في هذه القضية المهمة، ويصون في الوقت نفسه الحقوق الدستورية للملكية الخاصة والتي أكدها حكم المحكمة الدستورية الصادر في 9 نوفمبر 2024، وقضى بعدم دستورية الفقرة الأولى في كل من المادتين رقمي (1) و (2) من القانون رقم (136) لسنة 1981، في شأن بعض الأحكام الخاصة بتأجير الأماكن وتنظيم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، فيما تضمنتاه من ثبات الأجرة السنوية للأماكن المرخص في إقامتها لأغراض السكنى اعتبارًا من تاريخ العمل بأحكام هذا القانون، وهو حكم ملزم لوضع حلول لهذه الأزمة الممتدة لسنوات طويلة، وسبقته أحكام أخرى أيضًا.
وهو ما دفع الحكومة إلى طرح مشروعي قانونين مقدمين لمجلس النواب، الأول: بشأن بعض الأحكام المتعلقة بقوانين إيجار الأماكن، والثاني: بتعديل بعض أحكام القانون رقم 4 لسنة 1996 بشأن سريان أحكام القانون المدني على الأماكن التي انتهت أو تنتهي عقود إيجارها دون أن يكون لأحد حق البقاء فيها، وإحالتهما إلى اللجان المختصة بمجلس النواب لبدء مناقشات موسعة تتضمن حوارًا مجتمعيًا شاملاً، حيث كلف رئيس مجلس النواب اللجنة المشتركة بإجراء حوار مجتمعي حول مشروعي القانونين.
والمؤكد أن تجميد القيمة الإيجارية طوال هذه العقود أوجد واقعًا يتعارض كليًا مع المتغيرات الاقتصادية، ويتناقض مع حالة سوق العقارات، ويتنافى أيضًا مع قواعد وثوابت وحقوق الملكية الخاصة.
فمع مرور الوقت أصبح الوضع أكثر تعقيدًا وخطورة على السلام المجتمعي، فالمالك يشعر بالظلم والإجحاف لتدني القيمة الإيجارية التي تصل أحيانًا إلى جنيهين فقط في الشهر، بل في المقابل فإن المالك مطالب بالإنفاق على صيانة العقار، بينما يرى المستأجر أن الوحدة أصبحت حقًا مكتسبًا وأن رفع القيمة الإيجارية وتحرير العلاقة يضر به في ظل أوضاع اقتصادية ربما لا تساعد على دفع القيمة الإيجارية.
ومن هذه المنطلقات المتضاربة سيتدخل المشرع في ضوء مخرجات الحوار المجتمعي بوضع قانون جديد يحقق التوازن ويضمن العدالة لعلاقة إيجارية جديدة لا تضر بطرفي هذه العلاقة، وتحسم قضية باتت خارج سياق الظروف الاقتصادية والاجتماعية ولا تناسب حركة التطور في المجتمع الذي يبني جمهورية جديدة ترسخ دولة القانون والدستور وتُعلي من قيم حرية العمل والإنتاج وتصون الملكية الخاصة.
يقينًا أن تدخل المشرع في علاج العوار في ملف الإيجار، علاوة على أنه يحل قضية مجتمعية مجمدة منذ عقود، فإنه سوف يساهم في حل مشكلة الإسكان، بل وربما يؤدي إلى خفض أسعار العقارات، إذ تشير الدراسات إلى أن إصدار القانون الجديد سيحقق العديد من المزايا لجميع الأطراف، في مقدمتها أنه سيساهم في فتح نحو 450 ألف وحدة مغلقة وإدخالها إلى السوق العقاري، وهو ما سيزيد المعروض، ويُسهم في خفض أسعار الإيجارات، كما أنه سيحافظ على الثروة العقارية من خلال تشجيع الملاك على صيانتها الدورية بعد زيادة العوائد الإيجارية، كما أنه من ناحية ثالثة يحد من حالات سقوط العقارات وتهديد حياة السكان الذين يسقطون ضحايا، إذ أن هناك مستأجرين يقيمون في وحدات آيلة للسقوط مقابل إيجار زهيد وغياب للصيانة مما يهدد حياتهم وحياة أسرهم، ورأينا الكم الهائل من العقارات التي تسقط على رؤوس ساكنيها.
إذن من الخطأ اختزال القضية في المالك والمستأجر، فهي أكبر وأوسع، فمن ناحية هي مسألة تخص ثروة عقارية مهدرة، وهي أيضًا تمس حياة مواطنين مصريين، وثالثًا هي قضية مؤثرة في الأمن والسلام الاجتماعي.
وبما أن الأمر كذلك فإن الحوار المجتمعي حول القانون الجديد يجب أن يكون جامعًا لكل الأطراف ومستعينًا بكل الخبرات حتى يخرج القانون حاملاً من الضمانات والقواعد التي تحقق العدالة بين طرفي العلاقة الإيجارية وتصون ثروة عقارية ضخمة.
وأظن أن الفترة الانتقالية التي حددها القانون بخمس سنوات كافية لتأهيل السوق وتوفيق الأوضاع، وحذارٍ ممن يشعلون الفتن ويروجون شائعات وأكاذيب مثل القول إن القانون سيطرد المستأجرين.
دعاة هذه الأكاذيب تجاهلوا مبدأ تشريعيًا أصيلاً في مشروع القانون ينص على العدالة التدريجية في إعادة التوازن للعلاقة بين المالك والمستأجر، حيث لا يفرض الإخلاء الفوري للوحدات المؤجرة، بل يمنح المستأجر مهلة انتقالية تصل إلى خمس سنوات من تاريخ تطبيق القانون، وهو نص معقول يراعي المبادئ الإنسانية والبعد الاجتماعي ويضمن استقرار الأسر، كما أن إعادة التسعير للقيمة الإيجارية محكومة بقواعد وشروط تشريعية، فهي أيضًا ستكون بنسب تدريجية حتى لا تشكل عبئًا ماليًا على الأسرة.
الخلاصة:
أن كل هذه المحاور والنقاط خاضعة للحوار والنقاش وقابلة للتعديل والتبديل، لكن الثابت أن هناك نية جادة وتوجهًا مخلصًا من الدولة بإنهاء هذا الملف الذي أصبح يسيء لدولة يقضي دستورها بحرية الملكية الخاصة وصونها، بينما هناك ممتلكات سقطت منذ عقود في يد مستأجرين بملاليم ولا يستطيع أصحابها استردادها بأمر القانون!!