4-5-2025 | 18:41

منذ سنوات -ليست بالقريبة- كان عقلي مشغولًا بالتفسير النفسي الفلسفي الوجودي لظاهرة الحنين إلى الماضي، وزاد اهتمامي مع انتشار تلك الظاهرة التي أصبحتْ حالًا مجتمعية؛ وربما كانت الدهشة من أن تلك الحال لا يعيشها كبار السن فقط، بل امتدتْ تلك المشاعر لتحتل وجدان الشباب أيضًا!

لكن ما دفعني لكتابة ذلك المقال ليس انتشار تلك الظاهرة النفسية، ولا هيمنتها على وجدان الكبار والصغار؛ إذ ما أشعرني بضرورة تناول تلك الظاهرة النفسية بالتوضيح هو التوصيف النفسي غير الصحيح -من عدد ليس بالقليل من المختصين في ميدان تشخيص وعلاج الاضطرابات النفسية- الذي طال تلك الحال الوجدانية -وبالتبعية طال صاحبها- إلى الحد الذي يكون معه تشخيص صاحب تلك الحال باللاسواء النفسي، أيْ الاضطراب النفسي!

ما الحنين؟
الحنين إلى الماضي هو رغبة قوية في [هناك] وهناك تحمل دلالة الزمان والمكان في آن معًا؛ وفي هذه الحال تكون الذات راغبة في الرجوع إلى زمن قد انتهى، والزمان والمكان المنتهيان بهما شخوص ومواقف ومشاعر، بهما حياة كاملة ترغب فيها الذات بحنين قد يكون موجعًا.

هل الحنين يُعد من الاضطرابات النفسية؟
من العبث العلمي التعامل مع الظواهر النفسية بمبدأ المطلق، وعزلها عن نسجها الاجتماعي؛ إذ يُحتِّم التشخيص الموضوعي -على المختص في ميدان الاضطرابات النفسية- النظر إلى الظاهرة النفسية في سياقها الفردي، الجمعي، الثقافي، والعقدي أيضًا، والوقوف على وقعها على صاحبها ومَن في دائرة تفاعلاته الاجتماعية.

إن تم الأخذ بما بيَّنته في الكلمات السابقة يمكننا تشخيص الحنين إلى الماضي على أنه عَرَض مرضي لاضطراب نفسي في بعض الحالات، وعلى أنه مُحاوَلة للتوافق النفسي الاجتماعي والتناغم والانسجام مع هنا والآن في حالات أُخر.

الحنين إلى الماضي كونه عَرَضًا مرضيًّا لاضطراب نفسي:
في تلك الحال -التي يعايشها الكثير من البشر- نجد أنها نتجتْ عن عدة أسباب مجتمعة أو متفرقة؛ يمكنني ذكر الثلاثة الأكثر انتشارًا فيها، وهي:
فشل الشخص في تحقيق نجاحات تُرضيه.
تعرُّض الشخص لضغوط -أو صدمات- عجز عن تحملها والتعامل معها.
تحقيق الشخص كل ما كان يريده إلى الحد الذي يفقد معه الرغبة في، لتكون الرغبة عن؛ إذ يصاب الشخص بحال من الزهد في هنا والآن بما فيهما.
وفي تلك الحال يكون الحنين إلى الماضي مصحوبًا بعدد من الأعراض المرضية، منها:
الألم النفسي الشديد، ويكون مصحوبًا -عادة- بنوبات حزن وغضب.
التعطُّل -النسبي- عن القيام بالأدوار الاجتماعية والعمل.
ضعف التركيز وتشتُّت الانتباه.
تدريجيًّا يغرق الشخص في جُب ذاته، منسحبًا من الحياة والواقع.

الحنين إلى الماضي كونه مُحاوَلة توافقية وتجديدًا للطاقة النفسية:
من خلال العشرات من عملاء عيادتي وجدتُ أن الحنين إلى الماضي لا يمكن اختزاله في حال واحدة وهي الاضطراب النفسي؛ إذ نتيجة لتعميم تشخيص الحنين إلى الماضي كاضطراب نفسي راجعني بعض العملاء بفكرة مُسبَقة مفادها أن حنينهم لما كان يتطلب التدخُّل العلاجي، وأنهم مرضى!

الشخص المشتاق إلى هناك، الراغب في العودة إلى زمن ما -حتى وإن لم يكن هذا الزمن زمانه الذي عاشه- قد يكون ناجحًا في حياته الفعلية -هنا والآن- قادرًا على التوافق مع واقعه، قادرًا على التعامل مع ضغوط حياته، بل قد يكون سعيدًا بحياته هنا والآن، لكنه رغم ذلك يشعر بالحنين إلى الماضي، يشعر بالحنين إلى هناك.

وفي تلك الحال يعمل الحنين إلى الماضي على تمكين الشخص من تحقيق العديد من المكاسب، منها:
تنشيط وتعميق عملية التأمُّل الذاتي.
تنظيم الوجدان، وتطوير القُدرة على إدارة الانفعالات.
اكتساب طاقة نفسية إيجابية يتم معها إفراز الدوبامين الذي يجعل الشخص يستشعر السعادة.
الإيجابية في التعامل مع الواقع، وفي التخطيط للمُستقبَل.

ما سر الحنين؟
الفكرة -كما أراها- تكمن في أن الإنسان -منذ لحظة ميلاده- يكون لديه ذلك الحنين إلى الماضي؛ فالمولود يحن إلى الرَّحِم، وفي المراهقة يحن إلى الطفولة، وفي الشباب يحن إلى المراهقة، وهكذا يستمر الحنين فلا يعرف التوقف.

إذ أراه الإنسان يظل في حال من الحنين المستمر إلى أن يعود إلى الأُم الأولى -الأُم المصدر- الأرض؛ نعم، الإنسان في حال من الحنين اللاشعوري إلى الأُم المصدر وهي الأرض.

وهنا قد تُفسِّر -عزيزي القارئ- كلامي عن الأُم المصدر بأن الإنسان يعيش الحنين إلى الموت، وفي هذه الحال تكون قد اتفقتَ معي، فنحن -لاشعوريًّا- لدينا ذلك الحنين وتلك الرغبة في الموت؛ لكن الموت -هنا- لا يعني النهاية والعدم، بل هو الشعور بالاكتمال والانعتاق من كل أثقال الحياة التي حملناها مرحلة تلو مرحلة في عمرنا؛ إنه الموت بالمفهوم المصري القديم، أيْ الخروج إلى الحياة الحقيقية، وهذا ما نجده في [كتاب الموتى] في فصل من فصوله بعنوان [الخروج]؛ إذ كتب المصري القديم: "بالأمس أنجزتُ حياتي، واليوم أعود في النهار"، فالموت هو البوابة التي عبرها تكون الحياة؛ وهذا ما نجده -أيضًا- في الديانات الثلاث اليهودية، المسيحية، والإسلام.

إذن، الإنسان مُرْهَف الحس صاحب المشاعر الرقيقة ستجده -دومًا- في حال من الحنين إلى الماضي، وفي تلك الحال لا يجب أن نصنِّف هذا الإنسان على أنه غريبًا، خياليًّا، مريضًا؛ بل هو الإنسان الحق، هو الإنسان بكل ما تحمله كلمة إنسان من عُمق ورُقي، هو رُوح تبحث عن الخلاص.

من أجل ذلك -عزيزي القارئ- دع رُوحك تحيا بما كان لها، وتسعى مُحلِّقة نحو ما سيكون لها؛ واحذر الانسحاب من الواقع والغرق في الماضي، احذر الهروب إلى المُستقبَل دون التعامل الواعي التوافقي مع الواقع.

كلمات البحث
مملكة المُستقبَل السعودية كما أرغبها

منذ عِدَّة سنوات، كانت رحلتي الأولى إلى المملكة العربية السعودية، إذ كنتُ أُحاضِر بجامعة الملك سعود، ومن ثَمَّ كان عملي استشاريًّا للعلاج النفسي بأحد مراكز

الجائع وفوبيا إسقاط الدولة

تكلَّم عالم النفس الأمريكي الشهير ماسلو عن احتياجات الإنسان، وقام بترتيبها فيما عُرِف باسم هَرَم ماسلو للاحتياجات؛ قاعدة هذا الهَرَم هي الاحتياجات الفسيولوجية،

مصر بين "قيم" أبوسيف و"حلاوة روح" السبكي

الفنون على تنوعها، هي المرآة العاكسة للواقع الثقافي النفسي الحضاري للمجتمع؛ ويمكننا تأكيد أن الفنون تقوم بعملية التأريخ لحقبة زمنية من حياة المجتمع، بالإضافة