أخطاؤنا في أعيننا، أقل لمعانًا، فيما أخطاء الآخرين، كبيرة، جسيمة، لامعة، براقة، وكذلك خطيرة! مع أنفسنا، المبررات حاضرة، ومع غيرنا، الدفوع مرفوضة! وما أسوأها من قسمة (قِسْمَةٌ ضِيزَى)!!
ماذا لو ترفق الإنسان بغيره، والتمس للناس الأعذار، وقبل منهم القليل، وعفا عن الكثير. ما بين منطوق لم يُقصد، ومقصود لم يُنطق، تضيع حقائق كثيرة، فارحم القوم، وخذ منهم على قدر جهدهم، وبما يتوافق مع مبلغ علمهم. لقد جعل الله الغنى في النفس، والفقر في العينين، فلو وضعت لناقم كنوز الدنيا كلها، لقال: هل من مزيد؟! فيما يسعد الراضي بالقليل، والراضون دومًا، طيبون متسامحون، لا تشغلهم الدنيا بما فيها، ومَنْ فيها. لم يندم أحدهم قط، على كلمة طيبة قالها، لكن ندم الكثيرون على سوء ظنهم، وغلظة ردهم.
أمير المؤمنين، عمر بن الخطاب، رضي الله عنه وأرضاه، قال للموقدين ناراً: يا أهل الضوء، ولم يقل: يا أهل النار، كي لا تجرحهم الكلمة. السبطان الشهيدان، الحسن والحسين، رضي الله عنهما، لما شاهدا رجلاً لا يُحسن الوضوء، افتعلا مسابقةً فيما بينهما، عن الذي يتوضأ بالطريقة الأفضل، وقاما بتحكيم الرجل نفسه، فتبسم الرجل ضاحكًا، لما شاهدهما، مدركًا الغرض الحقيقي، من تلك المسابقة الوهمية، وقال: أنا الذي لا يُحسن الوضوء! قال اﻹمام الشافعي، رحمة الله تعالى عليه: لا تحاول الانتصار في الاختلافات كلها، فكسب القلوب، أولى من كسب المواقف، ولا تهدم الجسور التي بنيتها وعبرتها، فلربما احتجتَ إليها في العودة، يوماً ما. دائماً إِكْره الخطأ، لكن لا تكره المُخطئ، إِبْغَض المعصية، وسامح وارحم العاصي، انتقد القول، واحترم القائل، فإن مهمتنا هي أن نقضي على المرض، لا على المريض.
الحياة أسلوب، وليست تصيدًا للعيوب. هي القاعدة الراسخة، التي أسس لها المعلم الأول، صلى الله عليه وسلم، لما قال: (مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا بِحَذَافِيرِهَا) ترتيب شديد الدقة والعبقرية، منه صلى الله عليه وسلم لأولويات احتياجات الإنسان، والتي تبدأ بالأمان (الأمن النفسي) ثم بالعافية (الأمن الصحي) وأخيرًا القوت (الأمن الغذائي). ومفهوم أن (قوت) بخلاف (طعام) فالقوت قليل للغاية، يكفي بالكاد لإبقائك حيًا، أما الطعام فهو كثير، وفيه وفرة وتنوع، ورغم أنَّه مجرد (قوت) إلا أنه مع نعمتي الأمن والعافية، يعلو بالإنسان إلى مرحلة امتلاك الدنيا كلها، وهو ما نفهمه في كلمة (حِيزَتْ) بل وفي رواية أُخري، أعقب هذه الكلمة، كلمة أُخري، أشد خطورة، وهي (بِحَذَافِيرِهَا). الإنسان في ذاته، يمتلك الكثير، وهو بلا شك، في زحام من النعم، فبالمُستشفيات من يتوق إلى معيشتك، وفي السجون من يشتاق لحريتك، وفي دور الرعاية من يحلم بمثل فراشك، وفي القبور من يتمنى فرصتك.
أبناؤك دائم الشكوى منهم، دعاء كل عقيم، وزوجتك التي لا تطيق لها عِشْرة، رجاء كل أعزب، وعملك غير القانع به، أمل كل عاطل، وجيرانك حامل عداوتهم، أمان كل خائف. حياتك مهما ساءت بنظرك، هي أمنية لغيرك. طهر عينيك، لترى النعم الكثيرة واضحة جلية، ولا تمدن نظرك لما عند غيرك، بل إلى ما في حيازتك، عندها سترضى، ومن ثم تسعد حياتك، ولما تسعد حياتك، ستقر هذه العين، ولا تحزن، وكلما تفتحت على نعمة من النعم، كان ذلك بمثابة الدواء لها.
ما أكثر النعم، وما أعظم المنعم. سأشكر ربي دومًا، وأتفكر في نعمه اللامحدودة، وسأجعل من هذا التفكر الدائم، والشكر المتواصل، دواءً لعيني.