العاصفة قادمة.. عصر التحولات الكبرى

4-5-2025 | 14:12

في زمنٍ تتداعى فيه الخرائط السياسية القديمة، وتتشكل معالم نظام عالمي جديد، يصبح السؤال الأكثر إلحاحًا: كيف نتعامل مع هذه التحولات الجارفة دون أن نسحق تحت عجلاتها؟ العالم لم يعد كما عهدناه، والأقطاب التي ظلت مهيمنة لعقود بدأت تفقد بريقها، بينما تبرز قوى جديدة بجرأة غير مسبوقة. 

المشهد أشبه بلوحة يختلط فيها الزيت بالماء، كل لون يحاول أن يطغى على الآخر، لكن النتيجة النهائية لا تزال غامضة.  

منذ سقوط جدار برلين، والعالم يعيش تحت هيمنة القطب الواحد، حيث كانت الولايات المتحدة الأمريكية تقود المشهد بقوة عسكرية وثقافية واقتصادية لا تضاهى. 

لكن اليوم، نرى مؤشرات انهيار هذا النظام: صعود الصين كمنافس اقتصادي وعسكري، عودة روسيا إلى الواجهة رغم العقوبات، تكتلات إقليمية مثل "بريكس" تتحدى هيمنة الدولار، وحتى داخل أمريكا نفسها، الانقسامات السياسية والاجتماعية تهدد تماسكها.  

السؤال هنا: هل نحن أمام عالم متعدد الأقطاب حقًا؟ أم أن الفوضى هي سيدة الموقف؟ الواضح أن النظام القديم لم يعد قادرًا على الصمود، لكن الجديد لم يتشكل بعد. 

وفي هذه المرحلة الانتقالية، تظهر فرص هائلة للدول الذكية التي تعرف كيف تناور بين هذه التحولات دون أن تفقد توازنها.  

الشرق الأوسط.. بين التمزق وإعادة التشكيل  
في منطقتنا، تتداخل التحولات العالمية مع الصراعات المحلية، فتصبح النتيجة انفجارات متتالية. الحرب في أوكرانيا غيرت خريطة التحالفات، وأعادت رسم علاقات القوى مع روسيا وإيران وتركيا. 

التطبيع العربي مع إسرائيل، رغم أنه يبدو تكتيكا دبلوماسيًّا، إلا أنه في العمق جزء من صراع أوسع على النفوذ بين محورين: أحدهما يراهن على الغرب، والآخر يبحث عن شراكات مع الشرق.  

لكن الأخطر من كل هذا هو كيف نتعامل نحن – كدول عربية وإسلامية – مع هذه المتغيرات؟ هل سنظل في موقع المتلقي الذي يتأثر بالأحداث ولا يؤثر فيها؟ أم أن هناك طريقًا آخر؟  

المواجهة.. بين القوة الناعمة والصلبة  
الرد على هذه التحولات لا يمكن أن يكون عسكريًّا أو أمنيًّا فقط، فالتاريخ يخبرنا بأن من يملك القوة الناعمة – الثقافة، الاقتصاد، التكنولوجيا – هو من يكتب مستقبله، فالصين لم تنتصر بالدبابات، بل باليوان والهواتف الذكية وخطوط التجارة. 
 
1. اقتصاديا: لا بد من خلق تكتلات إقليمية حقيقية، لا تكتفي بالشعارات، إنشاء سوق عربية مشتركة، وشبكة تجارية بديلة عن التبعية للغرب أو الشرق، واستثمار في التقنيات الناشئة مثل الطاقة المتجددة والذكاء الاصطناعي. 
 
2. ثقافيًّا: هل نستطيع إنتاج سردية ثقافية تنافس هوليوود؟ وليس بالضرورة بالأفلام، ولكن بمنصات رقمية، ومسلسلات، وفنون جديدة تجذب العالم، كما تفعل كوريا الجنوبية الآن.
  
3. سياسيًّا: الدبلوماسية الذكية هي التي تعرف كيف تتعامل مع الجميع دون أن تخون أحدًا، اللعب على كل الحبال ليس عيبًا إذا كان الهدف حماية المصالح الوطنية. 
 
لا يمكن مناقشة التحولات العالمية دون ذكر التكنولوجيا، الذكاء الاصطناعي سيغير كل شيء: من طرق الحرب إلى صناعة الثقافة، والدول التي ستسيطر على هذه التقنيات ستكون هي القوى العظمى الجديدة. 

والسؤال المحوري: هل نستثمر في تعليم أبنائنا البرمجة والروبوتكس، أم نظل نستهلك منتجات الآخرين؟!  

التحولات الكبرى لا تعترف بالمشاعر، ولا تنتظر المتخلفين، إما أن نكون جزءًا من صناعة هذا العالم الجديد، أو نجد أنفسنا خارج الخريطة تمامًا. 

المسألة ليست خيارًا بين الشرق والغرب، بل هي كيف نصنع مكانًا لنا في هذا العالم المتشابك.  

العاصفة قادمة لا محالة، والسؤال الوحيد هو: هل سنكون في قلبها، أم تحت أنقاضها؟
العالم يتغير بسرعة تذهل العقل، والفرق بين من يركب الموجة ومن يدفن تحتها هو القدرة على التكيف وليس بالضرورة القوة المادية.

التاريخ يؤكد أن الإمبراطوريات العظمى سقطت ليس لأنها كانت ضعيفة، بل لأنها فشلت في قراءة التحولات. 

والسؤال المصيري: كيف نضمن أن نكون في قلب العاصفة بدلًا من أن ندفن تحتها؟  

1. ماذا يعني أن نكون "في قلب العاصفة"؟  

أن نكون في القلب لا يعني أن نتحكم في العاصفة، بل أن نكون فاعلين فيها، نؤثر بقدر ما نتأثر. 

بعض الشعوب اختارت أن تكون "مختبرات للتجربة" بدل أن تكون "ساحة للمعركة":  كوريا الجنوبية حولت نفسها من دولة مدمرة إلى عملاق تكنولوجي خلال 50 عامًا.  

الإمارات صارت محورًا عالميًّا ليس بالنفط فقط، بل بالاستثمار في الذكاء الاصطناعي والاقتصاد المعرفي. 

فيتنام استفادت من الحرب التجارية بين الصين وأمريكا لتصبح وجهة صناعية بديلة. 

هذه النماذج لم تكن أقوى من غيرها، لكنها فهمت قواعد اللعبة الجديدة: التحولات الكبرى تخلق فرصًا لمن يبحث عنها. 
 
2. لماذا قد نجد أنفسنا "تحت الأنقاض"؟ 
 
هناك مساران يؤديان إلى الانهيار: المسار الأول الإنكار: التمسك بسياسات قديمة لم تعد تنفع، مثل الاعتماد الكلي على النفط، أو رفض التكنولوجيا بحجة أنها "غزو ثقافي".  

والثاني يتمثل في التبعية: أن نكون مجرد مستهلكين للتقنيات والتحالفات، لا نصنعها؛ مثل دول تربط مصيرها بقطب واحد (شرقًا أو غربًا) دون خطة بديلة. 

لكن أكبر خطر يهدد منطقتنا هو الاستغراق في الصراعات الداخلية بينما العالم منشغل ببناء المستقبل.
  
3. كيف ننتقل من "تحت الأنقاض" إلى "قلب العاصفة"؟
  
الانتقال يتطلب ثلاثة تحولات جوهرية:  أ. التحول من "التابع" إلى "الشريك"، بالطبع لا نستطيع منافسة الصين أو أمريكا في الصناعة أو التكنولوجيا الآن، لكننا نستطيع أن نكون جسرًا بينهما. 

مثال: المغرب أصبح مركزًا لصناعة السيارات الكهربائية بإستراتيجية جذب الاستثمارات الأوروبية والصينية معًا. 
 
ب. صناعة "القوة الناعمة" بدل استيرادها؛ فلو أنفقت الدول العربية على البحث العلمي ما تنفقه على السلاح، لكانت اخترعت بديلًا لـ"تشات جي بي تي". 
 
ب- الثقافة سلاح: لماذا لا نصنع منصات رقمية تنافس "نتفليكس" برواياتنا ولغتنا؟ 

(مشاريع مثل "شاهد" بداية جيدة لكنها غير كافية). 
 
ج. المرونة السياسية.. لعبة التحالفات المرنة.
 
النموذج التركي إيجابي وسلبي: أنقرة تتعامل مع روسيا وأمريكا وحلف الناتو وإيران بذكاء، لكنها تدفع ثمنًا لعدم وضوح تحالفاتها أحيانًا. 

المطلوب إذن سياسة خارجية تقول: "نحن مع مصلحتنا أولًا"، دون انغلاق أو تبعية.
  
4. الذكاء الاصطناعي: الاختبار الحقيقي.
 
الذكاء الاصطناعي سيعيد رسم خريطة القوى خلال 10 سنوات. الدول التي ستسيطر على هذه التقنيات ستكون هي القوى العظمى الجديدة. 

والسؤال: هل نريد أن نكون مستهلكين للذكاء الاصطناعي (مثلما نستهلك آيفون اليوم)، أم مشاركين في صناعته؟ 

التعليم هو المفتاح: إدخال البرمجة والروبوتكس إلى المدارس ضرورة، وليس رفاهية.  

الخلاصة: 
العالم الجديد لا يعترف بالضعفاء، لكنه يكافئ الجرأة المرنة.

نحن أمام خيارين:  
الخيار الأول: أن ننتظر حتى تضربنا العاصفة، ثم نلوم "المؤامرات الخارجية". 
 
أما الخيار الثاني: فأن نستخدم رياح التغيير لتحريك أشرعتنا نحو مستقبل نصنعه بأيدينا. 

القرار ليس بيد الحكومات فقط، بل بيد كل مثقف، رجل أعمال، شاب مبرمج، أو فنان يرفض أن يكون ظلا لغيره.

 العاصفة قادمة.. فليختر كل منا مكانه فيها.

[email protected]

كلمات البحث