كانت ولا زالت حرفة البناء من الحرف شديدة المشقة والإجهاد، لكنها اتسمت بعدة صفات في مصر القديمة جعلتها أكثر صعوبة ومشقة على العامل؛ بسبب طبيعة الحرفة نفسها في هذه الحقبة التاريخية.
موضوعات مقترحة
وتمثلت هذه الصعوبة في حجم مواد البناء وأماكن قطعها من المحاجر ونقلها إلى مواقع البناء التي قد تكون أحيانًا بعيدة عنها، وتمثلت أيضًا في طبيعة الأدوات البدائية التي استخدمها العامل، كما أن معظم أعمال البناء في مصر القديمة تطلبت وجود أعداد كبيرة جدًا من العمال في مجتمعين في نفس الوقت والمكان؛ مما قد يؤدى إلى العديد والعديد من الإصابات والعدوى بين العمال.
والنصوص المصرية القديمة لم تبخل علينا بوصف حالة عمال البناء الصحية فيما عرف "بهجو المهن" ماورد على لسان "خيتى بن داووف" قائلًا:"دعني أحدثك عن البناء كليته مريضة، ويتواجد في الخارج في الهواء وهو يبنى، دون رداء، حزامه حبل للظهر وشريط غليظ لمؤخرته، قواه خارت من الإرهاق والصلابة، أنه مغطى بالوحل، ويأكل بأصابعه على الرغم من انه يغسلها مرة واحدة في اليوم"،"والبناء يبحث له عن عمل في كل أنواع الأحجار الصلبة وعنما ينتهى منه تكون ذراعاه قد تكسرتا، ويصبح مضنى، وعندما يلبس أمرؤ كهذا عند الغبش فإن فخديه وظهره تكون قد حطمت".
عمال البناء في مصر القديمة
وقد يكون من أهم أسباب هذه الإصابات، هو استخدامهم للأدوات الصلبة والحادة والمواد ثقيلة الوزن كالأحجار التي تصل اوزانها في بعض الاحيان إلى الأطنان، فمن المؤكد أن يتعرض هؤلاء العمال إلى حوادث العمل التي تحدث بشكل مفاجئ، خاصة وأن هناك فئات تشارك في هذه الأعمال ممن ليس لديها الخبرة الكافية للتعامل مع تلك المواد والأدوات، كالفلاحين اللذين يعملون في فترات الفيضان.
إلى جانب ذلك، فهناك ناحية أخرى للعمل، تتمثل في زاوية الإضرار بالصحة، فقد يكون العمل سبباً هاماً لمرض مزمن يحصل هذا إذا زاد العمل عن طاقة العامل، أو اذا كان العمل يتطلب مجهودًا شاقاً يصعب على العامل القيام به، أو اذا حُرم العامل من فترة الراحة، أو إذا مُنع من الرياضة البدنية أو إذا كانت ظروف العمل لا تتفق مع أصول الصحة العامة، لم تكن الظروف التي تجعل العمل مفيدًا أو ضارًا كلها ظروفاً جسدية أو ظروفًا صحية، بل ايضاً كان للعلاقة بين العامل والبيئة التي يشتعل فيها العمال والآلات التي يستعملونها دوراً كبيراً، مثل استنشاق عمال المحاجر لغبار السيليكا أثناء قطع الأحجار.
عمال البناء في مصر القديمة
ومن أجل كل هذا، اهتمت الحكومة في مصر القديمة برعاية العاملين بها صحياً، بهدف توفير التوازن البدني والنفسي للعامل، وحمايته من كل الأمراض والأخطار التي قد تؤثر على أدائه وإنتاجه، واهتمت ايضاً بتوفير الظروف المناسبة له من أجل إتمام عمله بنجاح، فعملت على تحقيق ذلك بعدة وسائل:
مراكز الطوارئ
خُصصت لعلاج ضحايا حوادث العمل المفاجئة داخل المدن العمالية، وكان بها أطباء ومساعدين الاطباء للتدخل السريع.
الإجازات المرضية والعلاج
كما فطنت الدولة إلى حق العامل في الراحة في حالة مرضه فمن غير المعقول أن تحدث إصابة بالغة للعامل ويستمر في عمله؛ ولذلك كان من أهم متطلبات الاستشفاء حقه في الأجازات المرضية، وحقه في العلاج.
عمال البناء في مصر القديمة
وتشير الوثائق الكتابية إلى أن المرضى والمصابين كانوا يحصلون على الراحة كقانون للعمل بشكل عام كما أن واحدة من بقايا الأوستراكا (قطع من الفخار المكسور أو الحجر، غالبًا ما تكون من الحجر الجيري، كانت تستخدم في العصور القديمة كمادة للكتابة) التي ترجع إلى مواقع العمل تحتوى على هذه الملاحظة: "الرئيس لا يأمر [العامل] المريض برفع الحجر" كناية عن عدم التكليف بالعمل أثناء المرض".
بدراسة بقايا الأوستراكات الخاصة بقرية دير المدينة، يبدو أن الإجازات المرضية كانت مدعومة حكوميًا لا يخصم بسببها؛ حيث كانت (مدفوعة الأجر) من مقرراتهم الشهرية، وحتى الأدوية التي توزعها الدولة ليست مجرد مكونات للرعاية الطبية مقصورة على المرضى، ولكنها كانت جوانب أساسية للرعاية الصحية في دير المدينة ، مما يوضح جانباً مهماً بالرعاية الصحية التي ترعاها الدولة للعمال منذ آلاف السنين، ولم يكن يسمح للعمال المرضى بالعودة إلى عملهم الا بعد التأكد من شفائهم التام، وقد ورد في العديد من نصوص محاجر حتنوب إشارات عديدة عن العودة إلى العمل بعد الشفاء.
عمال البناء في مصر القديمة
التغذية
سوء التغذية والإهمال كانا سيؤثران بشكل سلبي على الصحة العامة للعمال؛ وبالتالي تم الحرص على وجود منظومة من مقدمي الرعاية الشخصية والتغذية لأنها سوف تؤدي إلى حالة صحية أفضل للعامل.
ويوجد بعض الأوستراكات المسجل عليها كميات الحبوب المخصصة للعمال في قرية دير المدينة، موضحة نصيب العامل من القمح البري والشعير، مع إمكانية تبديل بعضها بالخضراوات والفاكهة والسمك أو اللحم.
وفى المشروعات الكبرى كبناء الأهرامات تُحدد كمية الأطعمة الخاصة بالعمال تبعاً للمهمة المكلف بها، بإجراء عملية حسابية لغذاء العمال الذين تم أرسالهم في عصر الملك سيتى الأول إلى محاجر السلسلة، كان نصيب الفرد منهم 1.8 كيلو جرام من الخبز وحزمتين من الخضر وقطعة من اللحم مشوي وهذه الكمية من الخبز وحده تساوى 6480 كالوري، وهي تمثل ضعف ما يحتاجه العامل اليدوي الخفيف.
عمال البناء في مصر القديمة
الإجراءات الاحترازية
اتخذ الأطباء العديد من الإجراءات فيما نسميه اليوم الإجراءات الاحترازية لمنع انتشار الأمراض والأوبئة والعدوى فكان يعد للعمال بعض الملابس، ويأمرهم بالاغتسال يوميا في الأوقات المخصصة للراحة من العمل، تم تحديد أماكن خاصة بعيدة عن أماكن العمل لتأدية احتياجاتهم على مسافات متفاوتة حرصًا على نقاوة الهواء وعلى سلامة أبدانهم من أضرار التلوث بالمواد القذرة، كما جهز الأطباء أماكن خاصة لاحتجاز المرضى من العمال فيها من يتقرر عزلهم عن باقي الأصحاء على صخرة مرتفعة فيما يسمى بالحجر الصحي.
توفير الأطباء
كان لتواتر المشكلات الصحية دوراً في تعيين طبيب في مناطق تجمع العاملين، حيث ان مجموعات العمال التي كانت تقوم بالمنشآت والمشاريع المعمارية الضخمة أو أعمال المناجم التي تبحث في سيناء عن النحاس وأحجار الفيروز كانت تزود بالأطباء، تواجد الأطباء في أماكن عمل مجموعات من البشر، كالمناجم والمحاجر، وإقامة المنشآت الكبيرة المعابد والمقابر، والقصور، وكانوا يعالجون الأمراض المختلفة، إلى جانب حالات السموم الناجمة عن لدغ الثعابين والعقارب.
عمال البناء في مصر القديمة
أطباء المجموعات
احتوي التصنيف الإداري للأطباء في مصر القديمة على فئات مختلفة منها فئة (أطباء المجموعات)؛ هم فئة مخصصة لتقديم الرعاية الصحية لمجموعة محددة من الأفراد، يعيشون في مجتمع محدد ومقيد، كما أن مجموعات العمال اللذين يعملون في المشروعات العمرانية الكبرى، أو يعملون بالتحجير ويرسلون إلى المحاجر والمناجم في سيناء وغيرها لم يكن يصاحبهم الجنود ورجال الدين فقط، بل كان الأطباء جزءا مكملاً لهؤلاء المجموعات.
طبيب المعبد الجنائزي
يمثل طبيب المعبد الجنائزي نوعًا آخر من "أطباء المجموعة"، ظهر ببردية ليدن، وهي بردية كُتبت في زمن الأسرة التاسعة عشرة، حيث تم تسجل استقبال وخروج المواد الغذائية المختلفة من وإلى الرامسيوم، حيث ذكر "وزعت على الطبيب نفر حر"، وهنا يتضح أن الطبيب "نفر حر" قد شارك في التوزيع العام للإمدادات الدورية، وبالتالي كان ضمن أفراد معبد الرامسيوم.
طبيب المقبرة
وهناك أيضاً ما سمى بـ(طبيب المقبرة) حيث كانت المقبرة أيضاً مكان عمل يتوفر فيه أعداد كبيرة من العمال، ولذلك أيضاً وجبت الحاجة لطبيب يٌشرف على الرعاية الصحية أيضاً للعاملين في المقبرة الملكية، ويوجد تمثال للطبيب "بوير" يرجع لعصر الأسرة التاسعة عشر محفوظ الآن بالفاتيكان عليه منقوش عليه لقبه "كبير الأطباء في الجبانة"؛ مما يعطى دليلاً لا شك فيه.
عمال البناء في مصر القديمة
الطبيب الملازم
وهناك أيضاً ما يسمى بالطبيب الملازم لمجموعة العمل فقد كان يشارك هؤلاء العاملين في العمل، وحينما تتواجد الحاجة لمساعدته الطبية يقوم بممارسة عمله، فهناك أوستراكا تنسب لبقايا قرية عمال دير المدينة موجودة الآن بالمتحف البريطاني، تذكر شخصاً يسمى "با" كان رئيساً لمجموعة عمال وذكر أسمه ولقبه في الأوستراكا بالشكل الآتي"مع خونسو لعمل الدواء":
-أمدتنا العديد من الأدلة الأخرى على أدلة وجود الأطباء ضمن فرق العمال حيث يوجد ببردية تورين التي يرجع تاريخها إلى العام السادس عشر من حكم الملك رمسيس التاسع، حيث احتوت على تفاصيل لتوزيع الطعام، وتم ذكر أثنين من الكتبة يتلقون أثنين من (...)، وآخرون من العمال حصلوا على ثلاثة من (...) بينما الطبيب حصل نصيباً من متواضعاً فهو لم يحصل الأعلى واحداً من (...)، في إشارة مباشرة لتواجد الطبيب بصفة دورية مع فرق العمال مما أدى لحقه في الحصول على راتب.
عمال البناء في مصر القديمة
وبالرجوع للمسح الذي أجرى على بعض المنازل التي تقع بجبانة طيبة الغربية، فنجد قائمة مكونة من مائة وثمانين منزلاً ونجد بينهم جملة صريحة "منزل كبير الأطباء خع منو".
ـ هناك العديد من النصوص في دير المدينة إحدى قرى العمال في عصر الدولة الحديثة تشير إلى "swnw" "الطبيب"، فقد ذكر هذا اللقب في نصوص دير المدينة أكثر من مرة، حيث وجد 24 نصًا يتعلق بالأطباء، الغالبية العظمى من هذه هي نصوص حصص الحبوب والتغذية، ونصوص الغياب عن العمل، وأخرى جزء من تهمة قانونية، جديرا بالذكر أن هذه النصوص ترجع لعصور أسرات مختلفة.
- قطعة من الأوستراكا تعود للنصف الثاني من عصر الأسرة العشرين مسجل عليها بياناً لإحدى الشهور بالحبوب التي تم توزيعها على العمال فنرى ذكر لرئيس العمال وسبعة عشر عاملاً، وكاتب، وأثنين من الصبيان، وحارس، وخدم، وطبيبا يسمى "با" وهذا التوزيع هو توزيع حصص الإعاشة حيث تم ذكر الأطباء باستمرار في المجموعة العمالية وهذا يدل على أن وجوده في مجموعات العمال ليس وجوداً طارئاً، بل وظيفة دائمة ومستمرة.
-هناك نقش مهم للغاية من نقوش مقبرة المعماري "إيبوى" ترجع لعصر الملك "رمسيس الثاني" يقع هذا النقش على الجدار الشمالي للغرفة الاولى في المقبرة وهى الغرفة الوحيدة المزخرفة بالمقبرة، حيث صور النقش بوضوح الرعاية الطبية التي تلاقها أثنين من العمال على يد أتنين من الأطباء في مواقع البناء، وأيضاً امدنا بمعلومات بسيطة عن بعض الاصابات التي يمكن أن يتعرض لها العمال ومصوراً المهام المختلفة التي كان هؤلاء الأطباء يقومون بها ، فنجد أحد الأطباء وهو أخصائي عيون على ما يبدو ينزع جسما غريباً من عين أحد العمال، في حين كان الطبيب الآخر كان يعالج كوع أحد العمال من الخلع المفصلي وأحد المساعدين يعد له جبيرة لمنع حركة ذراع المريض .
رنا التونسي
باحث دكتوراه فى التاريخ والأثار المصرية القديمة بكلية الآداب جامعة طنطا
رئيس لجنة البحوث والدرسات الآثرية بحملة الدفاع عن الحضارة، نائب رئيس الحملة
رنا التونسي باحث دكتوراه بقسم الآثار بكلية الآداب جامعة طنطا