في عالم تتسارع فيه الابتكارات التكنولوجية وتتغير فيه موازين القوى الاقتصادية يومًا بعد يوم، يقف الدولار الأمريكي أمام اختبار حقيقي لم يشهد له مثيل منذ عقود.
ورغم صولجان هيمنته، بدأت ملامح نظام عالمي جديد لتسوية المدفوعات عبر الحدود تتشكل، ما قد يهدد مركزية العملة الخضراء في التجارة الدولية وتسوية المدفوعات بين الحدود.
سياسات ترامب تثير العاصفة
منذ أن صعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى سدة الحكم مجددًا، اتخذ مسارًا اقتصاديًا حمائيًا حادًا أشعل الأسواق وأثار قلق المستثمرين. فبدلًا من تعزيز الثقة، بدأت شهية العالم تجاه سندات الخزانة الأمريكية تتضاءل، وتراجع الدولار رغم ارتفاع العوائد، في مشهد أعاد للأذهان ما حدث للجنيه الإسترليني بعد الحرب العالمية الثانية.
كل هذا يشير إلى أمر خطير: ثقة العالم بالدولار لم تعد كما كانت.
الدولار.. الوسيط المكلف
تُظهر إحصائيات شبكة سويفت SWIFT العالمية أن نحو نصف المدفوعات الدولية لا تزال تمر عبر الدولار، رغم أن لا المشتري ولا البائع يرغبان فعليًا بذلك، بسبب الكلفة الإضافية التي تصل إلى 3٪ وتفرضها الشركات المُصدرة للبطاقات.
لنفترض أنك أردت شراء منتج من موقع هندي للتجارة الإلكترونية باستخدام بطاقتك المصرفية: غالبًا سيتم تحويل الجنيه الذي تملكه إلى دولارات أولاً، ثم إلى الروبية الهندية لاحقًا.
العالم يتغير.. والمدفوعات تتطور
مع تسارع التجارة الإلكترونية ورقمنة المدفوعات، تتوقع تقارير مثل تلك الصادرة عن جي بي مورجان jpmorgan أن تصل قيمة المدفوعات عبر الحدود cross-border payments إلى نحو 290 تريليون دولار بحلول عام 2030.
ولمواكبة هذا الانفجار، تتجه الشركات العالمية لاعتماد حلول تكنولوجية جديدة لجعل المدفوعات أكثر سرعة وأمانًا وشفافية.
الابتكار في مواجهة الدولار
التقنيات الحديثة مثل البلوك تشين Blockchain أصبحت لاعبًا أساسيًا في رسم ملامح المستقبل. وفي هذا السياق، تعمل البنوك المركزية الأوروبية مع نظيراتها الآسيوية على بناء أنظمة تحويل ذكية تستخدم هذه التقنية، لتسوية المدفوعات من دون المرور بالدولار.
سلسلة الكتل عبارة عن آلية متقدمة لقواعد البيانات تسمح بمشاركة المعلومات بشكل شفاف داخل شبكة أعمال، حيث تخزن قاعدة بيانات "بلوكتشين"في كتل مرتبطة ببعضها في سلسلة.
بل وحتى مشروع mBridge الذي انطلق بدعم بنك التسويات الدولية (قبل انسحابه لاحقًا بفعل الضغوط الجيوسياسية)، يتيح اليوم للبنوك المركزية تبادل العملات الرقمية وتسوية المطالبات في ثوانٍ بدلاً من أيام، وبتكاليف شبه معدومة.
هل نشهد نهاية الوساطة الدولارية؟
مع هذا الزخم في الابتكار والتحول الرقمي، يبدو أن الدولار قد يفقد دوره كوسيط دولي، خاصة في المعاملات التي لا تتعلق بالاقتصاد الأمريكي مباشرة.
قد لا نشهد تخليًا كاملاً عن العملة الخضراء بين ليلة وضحاها، لكن من المؤكد أن تعزيز العلاقات الاقتصادية مع الصين ودول كبرى أخرى، سيدفع الشركات العالمية تدريجيًا للبحث عن بدائل أقل تكلفة وأكثر كفاءة.
يبدو أن الرياح الاقتصادية العالمية تحمل في طياتها تحولات جذرية، وقد يذهب الدولار ضحية للحرب التجارية التي تشنها واشنطن، وربما يفقد عرشه العالمي الذي ظل محتفظًا به لعقود.