تمثل الولايات المتحدة الأمريكية نموذجًا فريدًا في التاريخ الحديث لدولة تأسست على أنقاض حضارات أخرى، وتطورت لتصبح القوة العظمى المهيمنة على العالم، ومنذ بداياتها الأولى، اتسمت السياسة الأمريكية بنزعة توسعية وإيمان عميق بمفهوم "القدر المتجلي"، الذي يبرر السيطرة على الأراضي والشعوب الأخرى، هذه النزعة التوسعية والاستعلائية لم تتوقف عند حدود القارة الأمريكية، بل امتدت لتشمل مناطق نفوذ في جميع أنحاء العالم.
نتناول هنا تاريخ غطرسة القوة الأمريكية منذ إبادة السكان الأصليين، وصولًا إلى التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن المرور المجاني للقطع البحرية العسكرية والتجارية الأمريكية، عبر قناتي بنما والسويس، وسنحلل كيف تعكس هذه المطالبات استمرارًا لنمط تاريخي من تجاهل القانون الدولي والسيادة الوطنية للدول الأخرى، وكيف تمثل امتدادًا لسياسة أمريكية قائمة على الهيمنة والاستحواذ.
الجذور التاريخية: إبادة السكان الأصليين
سياسات الإبادة والتهجير القسري
تعكس سياسات الإبادة والتهجير القسري التي انتهجها المستوطنون الأوروبيون إرهاصات مهمة تفسر سياسات حالية تمارسها الإدارات الأمريكية؛ لدعم هذا النوع من الفكر والممارسة له، وهي في ذلك تمارس دعمها أو معارضتها لمثل هذه السياسات بما يحقق مصالحها وتوازنات علاقتها مع الأطراف محل النزاع.
بدأت قصة الغطرسة الأمريكية مع وصول المستوطنين الأوروبيين إلى القارة الأمريكية، واستيلائهم على أراضي السكان الأصليين. لم تكن هذه العملية مجرد توسع طبيعي، بل كانت سياسة ممنهجة للإبادة والتهجير القسري. فقد انخفض عدد السكان الأصليين من حوالي 10 ملايين نسمة قبل وصول كولومبوس إلى أقل من 300 ألف بحلول نهاية القرن التاسع عشر.
من أبرز الأمثلة على ذلك مأساة "درب الدموع" (Trail of Tears) التي وقعت بين عامي 1830 و1850؛ حيث إنه في ذلك الوقت، أصدر الكونغرس الأمريكي قانونين مهمين هما: قانون إعادة الإحلال (Reallocation Act)، وقانون إزاحة الهنود (Indian Removal Act). استغل الرئيس الأمريكي آنذاك، أندرو جاكسون، هذه القوانين لفرض التهجير القسري على بعض قبائل السكان الأصليين، خصوصًا الشوكتو، السيمينول، الشيروكي، والشاوني، وهي من أكبر القبائل التي تعلمت الزراعة وتكيفت مع نمط الحياة الحديثة، ما جعلها الأكثر تمدنًا في نظر المستوطنين الأوروبيين المهاجرين إلى أمريكا. لكن ذلك «التمدن والتكيف» لم يشفع لهم، حيث تم تهجيرهم قسرًا من أراضيهم الخصبة في ولايات تينيسي، ألاباما، جورجيا، وميسيسيبي، التي طمع بها المستوطنون الأوروبيون، ونُقلوا إلى مناطق أخرى تبعد مئات الأميال. خلال هذه الرحلة القاسية، لقي ما بين 15 إلى 25 ألفًا من أبناء القبائل الأصلية حتفهم بسبب البرد والجوع والأمراض، إضافة إلى سوء المعاملة من قبل الجنود الذين أشرفوا على ترحيلهم، ما جعلها رحلة تُروى بالدموع. مما هو غريب أثناء هذه المأساة، أصدر جون مارشال، رئيس المحكمة الفيدرالية، حكمًا لصالح قبيلة الشيروكي، حيث أبطل قرارات حكومة جورجيا التي استهدفت أراضي السكان الأصليين، واعتبرها غير دستورية، ما شكّل نصرًا قانونيًا للقبيلة. وإزاء ذلك الحكم رد الرئيس الأمريكي أندرو جاكسون، متهكمًا بعبارته الشهيرة التي صارت دستورًا في تحدي القوانين والأحكام: "لقد أصدر جون مارشال حكمه، فليقم الآن بتنفيذه!" وتابع قراراته بترحيل القبائل قسرًا، غير مكترثٍ بالقانون، ولا بالمعاهدات التي أبرمتها حكومته مع القبائل، ولا حتى بالكوارث الإنسانية التي ترتبت على هذه الإبادة الجماعية.
في تلك الفترة، تم تهجير ما بين 60 إلى 100 ألف من السكان الأصليين إلى مناطق نائية تعرف اليوم بولاية أوكلاهوما. لم يكن اختيار هذه المنطقة عشوائيًا، بل لأنها كانت فقيرة الموارد وغير مرغوبة من قبل المستوطنين البيض، ما جعلها بمثابة منفى معزول للقبائل التي تم تهجيرها. لم يكن التهجير القسري مجرد طمعٍ في الأراضي الخصبة أو الثروات الطبيعية كالذهب، بل كان جزءًا من عقيدة أيديولوجية خطيرة تُعرف باسم "المصير المتجلي". هذه الفكرة، التي حظيت بقبول سياسي واسع، تقوم على تفسير ديني أيديولوجي؛ مفاده عقيدة بأن للرجل الأبيض حق مقدس، وبل وواجب إلهي لنشر الحضارة الغربية في أراضي السكان الأصليين، حتى لو كان ذلك عبر القتل والتهجير والاحتلال.
الخديو إسماعيل خلال حفل افتتاح قناة السويس
تبرير الإبادة: مفهوم "القدر المتجلي"
لتبرير هذه السياسات الوحشية، طور الأمريكيون مفهوم "القدر المتجلي" (Manifest Destiny)، وهو الاعتقاد بأن الله قد اختار الأمريكيين البيض لنشر الحضارة والديمقراطية عبر القارة الأمريكية. هذا المفهوم منح المستوطنين البيض "حقًا إلهيًا" في الاستيلاء على الأراضي وإبادة أو تهجير سكانها الأصليين.
كان هذا المفهوم أساسًا أيديولوجيًا للتوسع الأمريكي، وقد استمر تأثيره في السياسة الخارجية الأمريكية حتى يومنا هذا. فالاعتقاد بأن الولايات المتحدة لها الحق في التدخل في شئون الدول الأخرى لنشر "الديمقراطية" و"الحرية" هو امتداد مباشر لمفهوم "القدر المتجلي".
تطور السياسة الخارجية الأمريكية: من التوسع الإقليمي إلى الهيمنة العالمية
"مبدأ مونرو" والتوسع في أمريكا اللاتينية
مع بداية القرن التاسع عشر، بدأت الولايات المتحدة في توسيع نفوذها خارج حدودها. في عام 1823، أعلن الرئيس جيمس مونرو مبدأ عُرف باسمه، ينص على أن الولايات المتحدة لن تسمح بأي تدخل أوروبي جديد في شئون القارة الأمريكية. وعلى الرغم من أن هذا المبدأ قُدم كوسيلة لحماية استقلال دول أمريكا اللاتينية حديثة الاستقلال، إلا أنه في الواقع مهد الطريق للهيمنة الأمريكية على نصف الكرة الغربي.
استخدمت الولايات المتحدة "مبدأ مونرو" كذريعة للتدخل في شئون دول أمريكا اللاتينية، وفرض سيطرتها عليها. وقد وصف الرئيس روزفلت هذا النهج بـ "سياسة العصا الغليظة"؛ حيث أكد حق الولايات المتحدة في ممارسة "سلطة شرطية دولية" في نصف الكرة الغربي.
الاستحواذ على قناة بنما
من أبرز الأمثلة على هذه السياسة التوسعية هو الاستحواذ الأمريكي على قناة بنما. في عام 1903، دعمت الولايات المتحدة انفصال بنما عن كولومبيا، ثم أبرمت معاهدة مع الحكومة البنمية الجديدة تمنحها حقوقًا واسعة في منطقة القناة. وقد اعترف الرئيس روزفلت لاحقًا بأنه أخذ القناة بالقوة.
بموجب معاهدة هاي-بونو فاريلا لعام 1903، حصلت الولايات المتحدة على حق استخدام وإدارة والسيطرة على منطقة القناة "كما لو كانت صاحبة السيادة عليها". وقد استمرت هذه السيطرة الأمريكية على القناة حتى عام 1999، عندما تم تسليمها إلى بنما بموجب معاهدتي "تورّيخوس-كارتر" لعام 1977.
الرئيس السيسي خلال تدشين قناة السويس الجديدة
"إمبراطورية الحرية" والتدخلات العسكرية
مع نهاية الحرب العالمية الثانية وبروز الولايات المتحدة كقوة عظمى، تطورت السياسة الخارجية الأمريكية لتشمل مفهوم "إمبراطورية الحرية". هذا المفهوم، الذي يعود جذوره إلى توماس جيفرسون، يقوم على فكرة أن الولايات المتحدة لها مهمة خاصة في نشر الديمقراطية والحرية في العالم.
لكن في الممارسة العملية، غالبًا ما استخدمت الولايات المتحدة هذا المفهوم لتبرير التدخلات العسكرية والسياسية في دول أخرى لحماية مصالحها الاقتصادية والإستراتيجية. من فيتنام إلى العراق، ومن تشيلي إلى إيران، تدخلت الولايات المتحدة عسكريًا وسياسيًا لإسقاط حكومات أو دعم أنظمة استبدادية تخدم مصالحها.
مطالبات ترامب بشأن قناتي بنما والسويس: استمرار لنمط تاريخي
تصريحات ترامب الأخيرة
في أحدث تجليات هذه النزعة الاستعلائية، طالب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 26 أبريل 2025 بالسماح للسفن العسكرية والتجارية الأمريكية بالمرور مجانًا عبر قناتي بنما والسويس. وقال ترامب في منشور على منصة تروث سوشيال: "يجب السماح للسفن الأمريكية العسكرية والتجارية بالمرور مجانا عبر قناتي بنما والسويس! هاتان القناتان ما كانتا لتوجدا لولا الولايات المتحدة الأمريكية"، وأضاف ترامب أنه طلب من وزير الخارجية ماركو روبيو "أن يتولى هذا الأمر على الفور".
هنا، نحن أمام مفارقة لها وجهان؛ الأول: أن القناتين سبق ذكرهما في إدارة ترامب، "قناة بنما" ورد الحديث عنها إبان حملة ترامب وإعلانه رغبته في السيطرة عليها وعلى جرينلاند؛ لتحقيق المصالح الأمريكية، أما "قناة السويس" فقد تم الحديث عنها منه ومن إدارته عقب تسريبات سيجنال الشهيرة في يناير الماضي والدفاع عن ذلك بأن على مصر وأوروبا أن يدفعا ثمن التخلص من الحوثيين وتأمين البحر الأحمر.
أما الثاني والكارثي، أن عقل ترامب ربما يعود به إلى القرن الماضي، ويتصور ما قامت به الولايات المتحدة من دور لمناصرة بنما في مطلعه، أو دورها في التصدي للعدوان الثلاثي على مصر لمحاولة إعادة السيطرة على قناة السويس، يعطيانه "الحق الإلهي" في السيطرة على موارد الدولتين، وهو في ذلك يمارس عقيدة أمريكية متأصلة.
تجاهل القانون الدولي والاتفاقيات المنظمة للعبور
تتجاهل مطالبات ترامب بشكل صارخ القانون الدولي والاتفاقيات المنظمة لعبور هاتين القناتين. فقناة السويس تخضع لاتفاقية القسطنطينية لعام 1888، التي تنص على أن "تكون قناة السويس البحرية على الدوام حرة ومفتوحة سواء في وقت الحرب أو في وقت السلم، لكل سفينة تجارية أو حربية دون تمييز لجنسيتها". وهذه الاتفاقية تمثل إطارًا قانونيًا ملزمًا للدول الأطراف، وتضمن حق جميع الدول في الاستفادة من هذا المرفق العالمي مقابل دفع الرسوم المقررة.
أما قناة بنما، فقد تم تسليمها إلى بنما بموجب معاهدتي تورّيخوس-كارتر لعام 1977، التي دخلت حيز التنفيذ في 31 ديسمبر 1999. وتنص هذه المعاهدات على أن بنما تتمتع بالسيادة الكاملة على القناة، وأن القناة ستظل محايدة ومفتوحة لعبور سفن جميع الدول مقابل دفع الرسوم المقررة.
الادعاء بالحقوق التاريخية: تبرير للهيمنة
يستند ترامب في مطالباته إلى ادعاء بأن "هاتين القناتين ما كانتا لتوجدا لولا الولايات المتحدة الأمريكية". وهذا الادعاء يتجاهل الحقائق التاريخية، ويعكس نظرة استعلائية تتجاهل دور الشعوب المحلية والمجتمع الدولي في إنشاء وتطوير هاتين القناتين.
فقناة السويس، التي افتتحت عام 1869، كانت مشروعًا مصريًا-فرنسيًا بالدرجة الأولى، وقد تم حفرها بجهود آلاف العمال المصريين. ولم يكن للولايات المتحدة دور يذكر في إنشائها، ولا حتى في توسعتها الثانية التي مولها الشعب المصري ونفذتها هيئة قناة السويس. أما قناة بنما، فعلى الرغم من الدور الأمريكي الكبير في إنشائها، إلا أن ذلك لا يمنح الولايات المتحدة حقوقًا خاصة فيها بعد تسليمها إلى بنما بموجب معاهدات دولية ملزمة.
افتتاح قناة بنما
خلاصة الأمر، تعكس مطالبات ترامب بشأن قناتي بنما والسويس استمرارًا لنمط تاريخي من الغطرسة والهيمنة الأمريكية. فمن إبادة السكان الأصليين إلى التدخلات العسكرية في دول أخرى، ومن الاستحواذ على قناة بنما إلى المطالبة بالمرور المجاني عبر القنوات الدولية، تظهر السياسة الأمريكية نزعة مستمرة لتجاهل حقوق الشعوب الأخرى وسيادة الدول وقواعد القانون الدولي.
هذه النزعة الاستعلائية ليست مجرد سياسة لإدارة معينة، بل هي جزء من بنية النظام السياسي الأمريكي وثقافته. فالاعتقاد بالتفوق الأمريكي والحق في الهيمنة العالمية متجذر في الخطاب السياسي والثقافي الأمريكي منذ تأسيس الدولة.
في عالم اليوم المتعدد الأقطاب، تواجه هذه النزعة الاستعلائية تحديات متزايدة. فالدول التي كانت تخضع للهيمنة الأمريكية في الماضي، أصبحت أكثر استقلالية وقدرة على مقاومة الضغوط الأمريكية. والمجتمع الدولي أصبح أقل تسامحًا مع انتهاكات القانون الدولي، حتى عندما تأتي من قوة عظمى مثل الولايات المتحدة.
مطالبات ترامب بشأن قناتي بنما والسويس، قد تكون مجرد تصريحات سياسية موجهة للاستهلاك المحلي تأكيدًا لأحاديث سابقة، وقد تكون مناورة اقتصادية بحكم عقليته في إدارة الأعمال للضغط السياسي، لكنها تعكس عقلية استعمارية لا تزال حاضرة في السياسة الأمريكية. وهي تذكير بأنه علينا النضال والوعي من أجل عالم أكثر عدلًا وديمقراطية، يواجه هذه العقلية ويرفض منطق القوة والهيمنة الذي تمثله.
* رئيس تحرير مجلة السياسة الدولية