سيناء.. العهد والإستراتيجية

25-4-2025 | 12:45

في الذكرى المجيدة لتحرير سيناء، لا تكفي الاحتفالات والخطابات الرسمية لتكريس معنى هذا اليوم، بل يجب أن نعود إلى الجوهر الإستراتيجي لما تمثله هذه الأرض التي شهدت حروبًا وتضحيات، وتحولت من ساحة معركة إلى رمز للسيادة والتنمية. التحرير لم يكن مجرد استعادة جغرافية، بل كان إعلانًا لميلاد مصر الحديثة، القادرة على حسم معاركها، وصياغة مستقبلها بعقلية تقوم على الأمن والتنمية معًا.

الحديث عن سيناء اليوم هو حديث عن "الوفاء" بمعناه الشامل: الوفاء لدماء الشهداء، وللتاريخ، وللأجيال القادمة. لكن هذا الوفاء لا يتحقق بالشعارات، بل بسياسات واضحة تعالج التناقض الذي ظل يطارد هذه الأرض لعقود؛ فسيناء التي تمثل 6% من مساحة مصر، ظلت تعاني من إهمال تنموي، وتوترات أمنية، وصراعات قبلية، بينما كانت يجب أن تكون بوابة مصر الاقتصادية والأمنية نحو آسيا والعالم.

الحكومة المصرية أدركت هذا التحدي مبكرًا، فجعلت من سيناء محورًا لإستراتيجية "الحماية والتنمية" المتوازية:

الحماية: عبر تعزيز الوجود الأمني والعسكري، وتفكيك شبكات التطرف والإرهاب التي حاولت تحويل سيناء إلى بؤرة للفوضى.

التنمية: بمشروعات زراعية وصناعية وتعدينية، وربطها بالمحافظات المجاورة، كما في مشروع محور قناة السويس الذي يحول سيناء إلى مركز لوجستي عالمي.

لكن التحدي الأكبر ليس في البنية التحتية، إنما في "البنية البشرية". فسيناء تحتاج إلى استثمار في الإنسان عبر التعليم والصحة، ودمج أبنائها في المشروع الوطني، بدلًا من تركهم فريسة للخطابات المتطرفة أو المصالح الضيقة.

عيد تحرير سيناء مناسبة وطنية تمثل فرصة للإعلان عن مستقبل نبنيه اليوم. العهد الذي نتحدث عنه ليس مجرد كلمات، بل التزام يومي بالعمل والمراقبة والتقييم. سنظل أوفياء عندما نحول سيناء من أرضًا للمعركة إلى أرض للفرص، ومن منطقة منعزلة إلى قلب النهضة المصرية الجديدة. هذا هو درس التاريخ، وهذا هو تحدي الإستراتيجية.

العهد الذي لا ينكسر
الوفاء لسيناء هو عهد ووفاء نعيشه كل يوم. عهد يتجسد في المزارع الذي يفلح أرضها تحت شمس الظهيرة، وفي المهندس الذي يخطط لطرقها، وفي الجندي الذي يحرس حدودها. الوفاء يعني أن نرى في سيناء أكثر من أرض، نرى فيها وعدًا. وعدًا بأنها ستكون، كما كانت دائمًا، جزءًا من روح مصر.

لكن الوفاء يحتاج إلى أكثر من المشاعر، يحتاج إلى فعل. فعل التنمية الذي يحول الصحراء إلى خضرة، والجبال إلى مشاريع، والحدود إلى بوابات للتعاون. فعل الأمن الذي يحمي الأرض من أي تهديد، سواء جاء من الخارج أو نبت من الداخل. فعل الثقافة الذي يربط أبناء سيناء بوطنهم، ويجعلهم حراسًا لهذا العهد.

مسيرة لا تنسى
سيناء سفر مفتوح تسطر فيه مصر تاريخها بدماء الشهداء وحكمة القادة. هنا، حيث التقت إرادة التحرير بعبقرية التفاوض، تحولت أرض المعارك الدامية إلى نموذج للسلام الإستراتيجي الذي يحمل في طياته رسالة للأجيال: إن السيادة لا تنتزع إلا بصلابة السلاح ودهاء الدبلوماسية.

الدماء التي رسمت خريطة السلام
حين انطلقت صافرات الإنذار في السادس من أكتوبر 1973، لم تكن مصر تعبر قناة السويس فحسب، بل كانت تعبر من عصر الاستسلام إلى زمن السيادة. الفريق عبدالمنعم واصل، قائد الجيش الثالث، لم يكن مبالغًا حين وصف العبور بأنه "دخول إلى التاريخ"، فمع كل دبابة اجتازت المانع المائي، كانت إسرائيل تفقد ورقة من أوراق التفوق التي ادعتها. لكن الحرب -بكل بطولاتها- كانت البداية فقط. فما كان لسيناء أن تعود إلا بفهم عميق لـ"معادلة القوة والسلام" التي أتقنها السادات، فحول الانتصار العسكري إلى انتصار سياسي، محققًا ما فشلت فيه عشرات المعارك عبر التاريخ: استرداد الأرض دون تنازل عن الكرامة.

لطالما نظر الغرب إلى الشرق الأوسط كساحة للصراعات الأبدية، لكن مصر -بحكمة قادتها- أعادت تعريف اللعبة. اتفاقية السلام 1979 لم تكن "استسلامًا" كما روج البعض، بل كانت خطوة جريئة لتحويل سيناء من ساحة حرب إلى جسر للتعاون. المفاوض المصري، بوعيه التاريخي، استخدم ورقة الانتصار العسكري لفرض واقع جديد: إسرائيل تنسحب من كل شبر، حتى آخر نقطة في طابا 1989. لم تكن الرمال المصرية لتسقط من اليد مرة أخرى.

التنمية سلاح إستراتيجي 
إذا كانت الحروب تحرر الأرض، فإن السلام يبنى بتنمية الإنسان. الرئيس السيسي فهم درس التاريخ جيدًا: سيناء التي تحررت بالسلاح لا تحمى إلا بالتنمية. مشروعات الأنفاق الستة -امتدادًا لنفق الشهيد أحمد حمدي –لم تكن مجرد جسور خرسانية، بل كانت اختراقًا لعقود من الإهمال. مشروعات الغاز في البحر المتوسط، والبنية التحتية العملاقة، تحولت إلى "خطوط دفاع اقتصادية" أمام أي محاولة لاختراق السيادة. إن تحويل رفح والعريش إلى مدن تنبض بالحياة رسالة واضحة: إن مصر لا تبني أسوارًا، بل تخلق واقعًا جديدًا يجبر العالم على الاحترام.

لا تزال إسرائيل – وبعض القوى الإقليمية – تراهن على تحويل سيناء إلى "جسم غريب" عن الجسد المصري. من حلم "الدولة البدوية" الذي داعب خيال بن جوريون، إلى محاولات تهريب المخدرات والأسلحة لخلق الفوضى، فإن المخطط واحد: تحويل سيناء إلى منطقة تضعف مصر بدلًا من أن تكون مصدر قوتها. لكن الرد المصري هذه المرة يجمع بين الذكاء والحسم، وبين مشروعات التنمية التي تجعل من كل مواطن في سيناء حارسًا للحدود.

سيناء 2025
اليوم، ونحن نحتفل بذكرى التحرير، فإن سيناء تطرح أسئلة مصيرية: هل نستحق أن نكون ورثة هذا الإرث؟ هل ندرك أن جبال جنوب سيناء ما زالت تهمس بوصية الفراعنة: "الأرض لا تورث.. تنتزع"؟

لقد أثبتت مصر - مرة أخرى - أنها قادرة على كتابة التاريخ بطريقتها: فمنذ أربعة آلاف عام، حين طرد أحمس الهكسوس، إلى يومنا هذا حيث تحبط المخططات بلا ضجيج، فإن العبرة واحدة: سيناء ليست حدودًا على الخريطة، بل هي اختبار دائم لقدرة الأمة على البقاء.

درس من جبل موسى. في سيناء، حيث تلقى النبي الوصايا العشر، تتعلم مصر يوميًا وصية جديدة: إن السلام الحقيقي لا يمنح، بل يفرض. وأن التحرير ليس حدثًا عابرًا، بل عملية مستمرة تبنى بالجندي الذي يحرس الحدود، والمهندس الذي يزرع الخضرة في الصحراء، والمواطن الذي يرفض أن تكون أرضه سلعة في سوق المساومات. فتحية لسيناء.. الأرض التي تعلمنا أن النصر ليس نهاية الطريق، بل بداية التحدي الحقيقي: كيف نحول الدماء إلى تاريخ، والحجارة إلى حضارة؟

الإجابة تكمن في الرؤية الشاملة. رؤية تجمع بين الأمن والتنمية، بين الحماية والانفتاح، بين الماضي والمستقبل. لن تكون سيناء آمنة إلا إذا كانت مزدهرة، ولن تكون مزدهرة إلا إذا كانت آمنة. هذا هو الدرس الذي تعلمناه من تاريخها الطويل.

كلمات البحث
اقرأ أيضًا:
الأكثر قراءة